يمثل «المال السياسي» أحد عناصر التناقضات الصارخة في الحياة السياسية الأمريكية
يمثل «المال السياسي» أحد عناصر التناقضات الصارخة في الحياة السياسية الأمريكية، والمدهش أن المحكمة الدستورية العليا هي التي أصدرت حكمها بأن المال يساوي الكلام المباح،
وبذلك أصبح " المال السياسي" مفهومًا وفعلاً وواقعًا، ينطبق عليه التعديل الأول للدستور والخاص بحرية التعبير، أي حرية إنفاق المال السياسي في الانتخابات. أصبح "المال السياسي" استثمارًا مضادًا لجوهر الديمقراطية، ليرسخ عجز الأغلبية عن ممارسة استحقاقاتها المشروعة لعضوية مجلس الشيوخ والنواب، في مواجهة خصوصية واقع قلة بحوزتها الثروات، إذ صار شرط الفوز بعضوية أحد المجلسين، إنفاق أكثر من عشرة ملايين دولار يدفعها المرشح، أو وفقًا للمصالح يسهم فيها الأثرياء ممن يصطفون إلى جانب المرشح، عندئذ يتجلى الثراء أداة إكراه وهيمنة، كتحدٍ صريح للديمقراطية ولسيادة العدالة وشرعيتها، وبينما اختفى مبدأ إنصاف الأغلبية، علت أصوات الأثرياء تروج لتمجيد الديمقراطية بصورة مجردة، وعزلها عن ظروف الاستغلال التي يمارسونها. هل المواطنة عيشًا، أم هي الفعل المنتج لحياة اجتماعية عادلة؟ وهل المجال السياسي هو مجال عام، وليس مجالاً خصوصيًا، إذ يتأسس على الانتخاب وليس الولادة، أو الانتماء إلى قلة مغلقة، أو الشراء؟ وفي ظل سلطان التلاعب واختطاف الحقائق من كياناتها، ظهر كتاب " ديمقراطية للقلة"، للكاتب السياسي الشهير "مايكل بارنتي" والتي أعيدت طبعته التاسعة عام 2011، لما يكشفه من طغيان ممارسات تبديد سلطة المفاهيم والحقوق والقيم المرجعية للديمقراطية
يطرح "مايكل بارنتي" في كتابه "ديمقراطية للقلة"، مجموعة من الأسئلة التي يناقشها الكتاب، التي تبرهن إجاباتها على بروز أوضاع خارقة بشكل حاسم للديمقراطية في النظام الأمريكي، فالمؤلف يتساءل: ما النهج الذي يتبعه النظام السياسي الأمريكي، وكيف يؤدي مهامه؟ ما القوى الرئيسية التي تشكل الحياة السياسية؟ من الذي يحكم أمريكا؟ من يحصل على ماذا، ومتى، وكيف ولماذا؟ من الذي يدفع الثمن، وبأي السبل يتم ذلك؟ وهذه التساؤلات إجاباتها - كما يطرحها المؤلف- تضاد ما تمارسه الأمركة وتكرره بأن واقعها لا يتطلب فحصًا، بل لا بد من التسليم به؛ لذا يحاول المتخصصون في العلوم السياسية الذين يمثلون الاتجاه السائد في أمريكا، والمدافعون عن النظام الاجتماعي القائم، إعادة عرض كل النواقص في النظام السياسي، بحيث تبدو وكأنها نقاط قوة؛ بل يحاولون ترسيخ القناعة بأن الملايين ممن يحجمون عن الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الأمريكية، قانعون بالظروف الاجتماعية الراهنة، وتتعدد الدفاعات عن دكتاتورية الفساد المعلن المنظم، بحيث تتبدى مسلمات مفروغًا منها تأسيسًا، ولا تتطلب تفكيكها على ضوء أهداف تنظير جديد، بل يستعان بها هي ذاتها، غير أن المؤلف يكشف عن كل المخفيات الأخرى التي اختزلها المدافعون عن تصوراتهم الاستباقية، فهو يكشف حقيقة أن الديمقراطية تتنافى مع الرأسمالية القائمة؛ بل إن النظام الاجتماعي الرأسمالي ينتهك الديمقراطية على نحو مستمر، وأن مفهوم الديمقراطية الحقيقية في أمريكا محض وهم، ولم يجنب الكاتب نفسه عناء الدخول إلى تفاصيل مستفيضة تاريخيًا، لرصد طبيعة النظام السياسي والاقتصادي وتجلياته، إذ يقرر أن "ديمقراطية للقلة"، هي محض انعكاس للنظام الاقتصادي السياسي كله، وأيضًا لطريقة توزيع مصادر السلطة داخل هذا النظام التي تمثل قلة ذات امتيازات، وليس عامة الناس، وأن القوانين وضعت بصفة رئيسية لدعم من يملكون، على حساب البقية الباقية من الشعب، إذ لدى أمريكا أعلى مستوى من عدم المساواة في جميع الدول المتقدمة، ثم يطرح سؤالاً: من الذي يملك أمريكا؟ وتأتي الإجابة فاضحة لمكامن خلل الديمقراطية الأمريكية، إذ إن نسبة 10 % من البيوت الأمريكية، التي تتربع على قمة الهرم، تملك 98 % من السندات المعفاة من الضرائب، كما تملك 94 % من الأصول المالية لمؤسسات الأعمال، وأيضا 95 % من قيمة جميع الودائع، كما تملك الطبقة الأغنى، التي لا تتجاوز 1% فقط من الأمريكيين، ما يصل إلى 60 % من أسهم الشركات الكبرى جميعًا، وكذلك 60 % من كل أصول مؤسسات الأعمال، وتنحو الاتجاهات نحو مزيد من التفاوتات. ألا يعني ذلك أن القلة هي التي تملك أمريكا؟ وبمراجعة تأسيسية شاملة، فكك المؤلف تمفصل النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي، بوصفه مركزًا لتخطيط وتنميط وضبط كل مقول أو مفعول أو متداول، ليكشف الأوضاع المغلقة لقلة أضفت على نفسها اللامحدودية، وامتطت القانون بوصفه إحدى دوائر الضبط الاجتماعي، ليصبح جسرًا إلى أهدافها في استلاب حقوق الأغلبية. ولأن التمفصلات السياسية والاقتصادية تأتي صنيعة أهدافها، ويمكن استشفافها؛ لذا فإن المؤلف يطرح خارطة المخاطر المعادية للديمقراطية، في ممارسات أجهزة الإعلام، وجماعات الضغط، والعدالة القضائية، والتدخل فيما وراء البحار وغيرها من الممارسات التي تعزز التفاوتات والهيمنة، فمثلاً استطاعت الشركات العملاقة للقلة المتحكمة في الإعلام، استصدار " قانون الاتصالات" الذي يسمح لشركة متفردة بامتلاك محطات تلفزة تخدم ما يزيد عن ثلث المشاهدين الأمريكيين، في حين أنها استراتيجية واضحة لإهدار تأمين التعدد واغتيال المصلحة العامة، كما رفضت شركات الإعلام عرض برامج أو تعليقات تدعو إلى التأمين الصحي، أو تنتقد التدخل العسكري الأمريكي في الدول الأخرى، وذلك ما يعني أنها محض سياسة واستراتيجية واحدة تفرضها قلة وليس ثمة خيار للأغلبية، وأيضًا عندما أظهرت إحدى عمليات استطلاع الرأي أن 23% ممن تم استفتاؤهم وافقوا على أن نظام الحزبين الاثنين، يسير سيرًا حسنًا، في حين عبر 67 % عن اعتقادهم أنه ينطوي على مشكلات كثيرة، وأنه غير فعال على الإطلاق، ومع ذلك لم تؤخذ خيارات الناس بعين الاعتبار ولم يعدل نظام الحزبين، صحيح أن الكونجرس يتكون من مجلسين، مجلس نواب توزع مقاعده بين الولايات تبعًا لعدد سكان كل ولاية، ومجلس شيوخ يضم عضوين عن كل ولاية بغض النظر عن عدد سكانها، وصحيح أنه وفقًا لذلك فإن تسع ولايات تضم أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة، ولكنها لا تحتل إلا 18 % من مقاعد مجلس الشيوخ، فمن، وماذا يمثل الكونجرس في الواقع؟ لذا يتولى من يدعمون الرأسمالية الكونية، ودولة الأمن القومي، مركزية التفكير لطرح فقه الدفاع عن الأوضاع الداخلية والخارجية، بوصفها ليست مرشحة للتغيير. يستعرض المؤلف نتائج تدخلات واشنطن في الإطاحة بحكومات إصلاحية لاثنتي عشرة دولة في العالم، خلال القرن المنصرم، واستعانتها بالمخابرات الأمريكية، وقوات من المرتزقة في تلك الحروب التي أدت إلى تشريد وقتل الملايين. يؤكد المؤلف أن "هذه السياسة التوسعية صممت على نطاق الكون كله، لكي تحمي وتدعم تنمية فرصتها المالية العالمية، ولتمنع قيام أنظمة اجتماعية ذات طبيعة ثورية أو إصلاحية"، وتساءل المؤلف: هل المخابرات الأمريكية هي جيش للرأسمالية؟ ويعاود الكاتب تأكيده أن "حكومة بلاده في سعيها لتوفير الأمن والسلامة للرأسمالية العالمية، تلجأ لقمع حركات التمرد الإصلاحية في العالم، وتقنع مواطنيها بأن سياسات التدخل ضرورة لمحاربة الإرهاب"، ثم يطرح سؤالاً: ترى من يراقب الأوصياء على الناس؟
نقلا عن / الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة