قد يكون من بديهيات تعّلم الأصول في مجال المحاكمات بشكل عام والقضايا الجزائية بشكل خاص
قد يكون من بديهيات تعّلم الأصول في مجال المحاكمات بشكل عام والقضايا الجزائية بشكل خاص تعّذر فرض التعويض على مرتكب أفعال مخالفة للقانون، دون استعراض وقائع ما حصل وتداعياته على الضحية، ثم الإدلاء بالدلالات الواضحة وغير القابلة للمناقشة حول قبول تلك الأفعال الجرمية، ومقدار هذا التعويض بالنظر لأدبيات القضية المعروضة وظروف حصولها.
هذا ما لم يحصل أخيًرا في إصدار الكونغرس الأميركي قانوًنا يحّمل حكومة السعودية أوزار دفع تعويضات، كماُسمي بقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، وصدر عن مجلس الشيوخ بغالبية 97 صوًتا من أصل مائة صوت، ورفض «الفيتو» الذي مارسه الرئيس أوباما على هذا القانون من المجلس نفسه، وكأن هذا القانون صدر عن جهة قضائية تحققت من حصول الجرائم التي ارتكبت في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في المركز التجاري العالمي بمدينة نيويورك، الأمر الذي لم يحدث، لا من قريب ولا من بعيد، وهو إجراء مستهَجن في بلد مثل الولايات المتحدة تعاقبت عليها القوانين والمحاكمات والوقفات التاريخية التي تدعي محاربة الظلم والعمل بمبادئ العدالة، سواء في تطبيق القوانين الداخلية، أو الالتزام بالمعاهدات والمواثيق الدولية التي صدرت بإيعاز منها أو بمجهود مميز عرفه على مر سنوات تاريخها الطويل؛ فكيف يحدث ذلك؟ وكيف لتشريع محاربة الإرهاب في العالم أنُتبنى عليه نتائج كل ما سبق ذكره من دون أن يخضع لإجراءات العدالة البديهية المطلوبة عرًفا ومنطًقا وقانوًنا.
وبالعودة إلى الحدث نفسه، يتبين أن أي تحليل للقانون الدولي والحرب ضد الإرهاب عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ،ينبغي أن يبدأ بالاعتراف بالحقيقة؛ أن الفظائع الإرهابية التي ارتكبت في أميركا في ذلك التاريخ غير قانونية بشكل صريح. وقد اتفق على هذه الحقيقة المختصون في القانون الدولي في كل أنحاء العالم، وبغض النظر عن السبب وراء تلك الأحداث البشعة، فلم يكن هناك تبرير قانوني واحد لها. رغم ذلك، لمَيُقد الإجماع على عدم قانونية الهجمات الإرهابية، إلى إجماع مماثل على القضايا القانونية التي أثارها رد فعل الولايات المتحدة على هذه الهجمات. لقد كانت قانونية لجوء الولايات المتحدة إلى استعمال القوة ضد تنظيم القاعدة ونظام طالبان في أفغانستان، والقيام بالحرب بعد ذلك، ووضع ومعاملة السجناء
الذين تحتفظ بهم الولايات المتحدة في قاعدة خليج غوانتانامو موضوعات مثيرة للجدل، وفي الوقت نفسه لم يحدث أن أقدمت الحكومة الأميركية على مبادرة تحقيق أو استعلام أو استخبار تجاه الحكومة السعودية أو تجاه رعاياها سواء داخل أو خارج حدودها.
لقد كانت جذور كثير من ذلك الجدل ترجع إلى حقيقة أن أحداث 11 سبتمبر 2001 ،لم تتوافق مع أي من التصنيفات الواضحة للقانون الدولي بسهولة، وبالنسبة إلى بعض المراقبين يمكن فحسب اعتبار الهجوم ظاهرة جديدة كلية تقع بكاملها خارج الإطار القائم للقانون الدولي، بتشديده على العلاقات الأفقية بين الدول، والعلاقات الرأسية بين الدولة والفرد.. والحقيقة القائلة إن أحداث 11 سبتمبر 2001 قد تدعو إلى الحاجة لإعادة دراسة بعض الافتراضات التي يقوم عليها النظام القانوني الدولي لا تغني أن هذه الأحداث قد وقعت في فراغ قانوني، كما لا تعفي هذه الحقيقة الحكومات والمختصين في القانون الدولي من الحاجة إلى تناول كل هذه القضية.
فكيف يمكن وصف أحداث 11 سبتمبر 2001 في ضوء أحكام ومبادئ القانون الدولي؟! يمكن القول إن أي تحليل لقانون يتعلق بأحداث 11 سبتمبر في أن اختطاف الطائرات الأربع، وما أعقب ذلك من قتل لركابها وقتل الأعداد الغفيرة ممن كانوا داخل مركز التجاري العالمي والبنتاغون، مكان جريمة موصوفة وفق القانون الجنائي العادي للولايات المتحدة، ولا تبطل جريمة القتل بسبب أن الضحايا يعدون بالآلاف، أو لأن الجناة كان دافعهم ما رأوا أنه اعتبارات سياسية أو فهم غامض للالتزام الديني. ولا يوجد أي شك في أن القانون الدولي يقر بالولاية القضائية للمحاكم في الولايات المتحدة، سواء على مستوى الولاية أو المستوى الفيدرالي في محاكمة المسؤولين عن التخطيط لتلك الجرائم وكل من ساعد على إتمام هذه الأفعال.
هذه هي الحالة حتى إذا كان الأشخاص المعنيون لم يدخلوا أميركا في أي من الأوقات، بما أن القانون الدولي يقر بالولاية القضائية للدولة في محاكمة أشخاص تآمروا خارج أراضيها لارتكاب جريمة داخل تلك الأراضي، ليجري طرح السؤال: هل اتخذت محاكم الولايات المتحدة مثل هذا الإجراء عن طريق تطبيق قوانينها الداخلية أو نصوص الأحكام الدولية المتمثلة بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية عن فعل هذه الجرائم؟ وسؤال آخر: بالنسبة إلى كثير من الدول سوف يكون هناك عوائق قانونية خطيرة فيما يتعلق بتسليم شخص ما متورط في هجمات 11 سبتمبر 2001 إلى الحكومة الأميركية، باعتبار أن هذه الأخيرة مكنت ولا تزال تطبق عقوبة الإعدام على مرتكبي تلك الأفعال، الأمر الذي ترفضه بلدان أخرى.
لقد أّدت هذه الاعتبارات واعتبارات أخرى إلى نداءات بمحاكمة المتهمين أمام محكمة دولية، ومع ذلك لم توجد مثل هذه المحكمة في زمن، وبعد زمن، أحداث نيويورك، ذلك أن المحكمتين الجنائيتين لهما ولاية قضائية فقط فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبت في أراضي يوغوسلافيا السابقة ورواندا النظر في هذه القضية، إذا كانت موجودة قبل 11 سبتمبر 2001 ،ولكن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لم يكن قد حصل على موافقة الستين طرًفا اللازمين لجعله نافًذا، وحتى حينما يصبح نافًذا (غالًبا خلال عام 2002 (فلن تكون للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية بأثر رجعي. ولا تملك المحاكم الدولية الأخرى الموجودة في الوقت الراهن، ولاية قضائية جنائية، مما يجعل الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يقدم بها من تبقى حًيا من متهمي 11 سبتمبر إلى محكمة دولية هي أن يبتدع مجلس الأمن واحدة بغرض محاكمتهم، كما حصل مع قضية «الشهيد» رفيق الحريري، أو سابًقا يوغوسلافيا ورواندا.
وحتى لا نطيل في وصف الموقف الذي كان يجب على الولايات المتحدة اتخاذه تجاه بشاعة وخطورة الأفعال التي ارتكبت في 11 سبتمبر، نرى أن ما أقدم عليه الكونغرس الأميركي تجاه ملاحقة مرتكبي تلك الأفعال على أنهم ألحقوا الضرر بضحايا الحادث ويجب التعويض عنها بواسطة حكومة السعودية أمر لا يقبله القانون الدولي ولا منطق الأمور، مما يعني أن ما تسعى إليه الولايات المتحدة بقانون كهذا هو الحصول على هدف شرعي بأدوات غير شرعية، وغير مقبولة في المبادئ والنتائج مًعا، أو التذرع بحجة الدفاع عن النفس تجاه جهات لم يثبت أنها شَّنت هجمات ضدها، أو لمجرد أنها الجهات التي يفترض ارتكابها للأفعال الجرمية دون وجود براهين دامغة على ذلك.
أبعد وأخطر من ذلك، أن قانون الكونغرس وإصراره عليه سوف يجعل من الولايات المتحدة جهة ملاَحقة دولًيا للحصول منها على تعويضات سخية لضحايا الحروب التيُتثبت أنها شنتها ضد شعوب أخرى، كما حصل في فيتنام والعراق واليابان وغيرها على سبيل المثال. فهل هي مستعدة للقبول بذلك؟ وهل سيبقى ممثلو الشعب الأميركي مصِّرين على موقفهم القانوني هذا؟ أم سيتراجعون عنه؟ سؤال ينتظر الأيام المقبلة للإجابة عنه!
يبقى التأكيد على أن هذا القانون اعتدى وخرق خرًقا جسيًما مبادئ القانون الدولي المستقرة وتحديًدا الحصانة السيادية للدول من المقاضاة بواسطة المحاكمة الداخلية للدول الأخرى، مما يشكل انحراًفا عن الشرعية الدولية. وبحياديتنا المنبثقة من مهنيتنا طويلة الأمد، نرى أن خطورة هذا التشريع ليست في الجانب القانوني وحسب، ولكن على المستوى الدبلوماسي والتفاوضي الدولي للإدارة الأميركية في أثناء مفاوضاتها واتصالاتها الخارجية مع الدول التي رفعت وسترفع ضدها دعاوى تعويض مدنية من عائلات ضحايا أفعال إرهابية لا تنحصر في أحداث 11 سبتمبر، ولا تنحصر كذلك في الأراضي الأميركية، تأسيًسا على نصوص التشريع الأميركي المتسم بالغرائبية غير المقبولة دولًيا، حتى إن كثيًرا من أعضاء الكونغرس يتجهون نحو إعادة النظر به، بل إن البعض منهم يدعون المحكمة الفيدرالية لإبطاله، وهي تستطيع ذلك قانوًنا!!
نقلا عن / الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة