الصراعات العسكرية بالذات تفرض على الدول واقعاً جديداً في التعامل مع أي شيء طارئ ومستجد.
والنزاع الجاري في أوكرانيا أسهم في تغيير خارطة المواقف الدولية بشكل غير مسبوق، ولدرجة كبيرة لم يكن حتى صناع القرار في الدول الكبرى أو الصغرى توقعها.
وقد يميل البعض اليوم إلى تصديق الرواية الغربية حول النزاع الروسي الأوكراني، والذي يتبناه الأمريكان والأوربيون، لنجد في المقابل رواية أخرى تنم عن دراية شاملة، مفادها أن الغرب "ورّط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحكومته في نزاع مع روسيا من أجل مكاسب سياسية وجيوسياسية"، وهذا أمر أشار إليه "زيلينسكي" نفسه في خطابات متعددة.
لكن بروز بعض المفاهيم السياسية والإعلامية المتداولة بكثرة هذه الأيام، من قبيل "الدول المحايدة" أو "الحياد الوطني للدولة" عبر نماذج يتم طرحها حتى على أوكرانيا في المفاوضات الجارية علناً وسراً بين كييف وموسكو، يجعلنا كذلك أمام مفهوم آخر يتعلق بـ"ماهية الدولة الوظيفية والدولة الحقيقية"، لا سيما في عالمنا العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالذات.
فهناك بعض الدول، التي تتقن القيام بأدوار وظيفية موكلة لها غربياً، ولكن قدرة هذه الدول على تطبيق سياسة التبعية للآخرين أحياناً تجعل منها نموذجاً مغايراً لعمل الدولة الحقيقية.
أما في منطقة الخليج العربي، فيحق لنا أن نفخر كعرب بأن دولتين مثل المملكة العربية السعودية والإمارات تقومان بجهود سياسية ودبلوماسية كبيرة للغاية على المستوى الإقليمي والدولي، كونهما دولتين قويتين ولديهما تأثير إيجابي، يخدم أمن واستقرار المنطقة والعالم، وإليهما يفِدُ -ولا يزال- قادة الشرق والغرب، بغية صياغة التحالفات والشراكات المثمرة والبناءة.
وفي عبارة وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، قبل أيام -وهو يناقش أبعاد الأزمة الروسية-الأوكرانية مع المفوض السياسي والأمني للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل- خير مثال على عمل وتوجهات الدولة الحقيقية، فالمسؤول الغربي رفيع المستوى شبّه ما جرى ويجري في مدينة ماريوبيل الأوكرانية بما حدث في مدينة حلب السورية، ليقول له الوزير السعودي: لكن تعاطيكم في الغرب مع حلب سابقاً كان مختلفاً عما تتعاطون به مع ماريوبيل اليوم.
وإذا كان اللغويون العرب يقولون: ذكر البعض وأراد به الكل، فإن جواب الدبلوماسية السعودية اختصر بشكل مباشر الغضب والرفض لـ"ازدواجية المعايير" الغربية حيال الأزمات الإنسانية والكارثية التي تضرب أي بلد في العالم.
فالغرب اليوم، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، يسعى جاهداً لإبرام اتفاق نووي مع إيران، دون إصغاء لهواجس ومخاوف دول مؤثرة في المنطقة، من تبعات أي اتفاق ناقص لا يأخذ بعين الاعتبار مصالح دول في الخليج العربي تتعرض لاعتداءات إرهابية مصدرها مليشيات الحوثي التي دعمتها إيران وزوّدتها بصواريخ ومُسيّرات باعتراف واشنطن نفسها.
حتى إسرائيل -بصفتها الحليف البارز لأمريكا- دقت ناقوس الخطر مع قرب التوصل للاتفاق المذكور، وراحت تل أبيب تعدد مساوئ التوافق مع طهران على حساب أمن المنطقة وسكانها.
والحراك السياسي المتنقل من قمة شرم الشيخ بدعوة من الرئيس المصري عبدالفتاح السياسي، إلى لقاء العقبة رفيع المستوى بالأردن، وليس انتهاء باجتماع النقب مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، كلها تندرج تحت عنوان الأمن والتعاون بغية تحقيق السلام المستدام لشعوب المنطقة في وقت حساس ومضطرب.
ولم تفوّت الإمارات، كما السعودية، فرصة للتعبير عن رؤيتهما المشتركة الرامية لمكافحة إرهاب المليشيات، والحفاظ على استقرار أسعار الطاقة العالمية، والخشية من تأثر سلاسل الإمداد، سيما وأن السعودية أخلت قبل أيام مسؤولياتها من أي نقص يخص توريد النفط، نتيجة الإرهاب الحوثي العابر للحدود.
وحتى في قمة العقبة، التي حضرها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، والملك عبد الله الثاني عاهل الأردن، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ومصطفى الكاظمي، رئيس وزراء العراق، بعث الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد السعودي، برسالة مهمة تساند حراك الإمارات ومصر والأردن والعراق، من خلال حضور الأمير تركي بن محمد بن فهد آل سعود، وزير الدولة السعودي وعضو مجلس الوزراء القمة.
وعلى هذا الأساس، وانطلاقاً من هذه الأرضية السياسية الصلبة، يكتسي نقاش صناع القرار في المنطقة بأهمية بالغة الدقة، كونه يرتبط بمواقف دول حقيقية، تقدم المصالح العليا للمنطقة على أي مصلحة لمعسكر غربي أو شرقي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة