منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، تراجعت وتيرة الحروب الكبرى بين الدول على جميع أراضي المعمورة.
نشبت صراعات وحروب مُذّاك داخل بعض الدول، لكنها ظلت محصورة في نطاق حدودها.
يُحيل بعض علماء العلاقات الدولية وعلماء الاجتماع السياسي عدم اندلاع حروب كبرى بين الدول إلى عوامل كثيرة، أبرزها القلق والخشية من الثمن الباهظ المترتب على أي نزاع بين دولتين عظميين أو دولتين يتماهى كل منهما مع دولة نووية متعارضة المصالح مع الأخرى أو تخشى من هيمنتها، أو الخشية من الخيار الأقل رعبا من السلاح الذري، وهو السلاح التقليدي الذي لا يقل قدرة على التدمير والقتل.
أثبت النزاع الأوكراني الروسي المستعر صحة هذا التصور، حيث بدا أن تراجع وتيرة الحروب بين الدول خلال العقود السبعة الأخيرة لم يلغِ أسوأ نتيجة لأي حرب، وهي الخسائر بجميع صنوفها وفي مقدمتها خسارة الإنسان وما يرتبط بوجوده اجتماعيا واقتصاديا وتنمويا.
هل يمكن درء الحروب؟
من حيث المبدأ، يمكن الإجابة بنعم، مشفوعةً بعدد من الوقائع التاريخية الدالة على إمكانية تحقق ذلك دون إسقاط استثناءات قد تحدث بدوافع محدودة التأثير لدى دولة أو أخرى بذرائع لا ترقى إلى مستوى الدفع نحو مواجهة شاملة.
النتائج الكارثية للحرب العالمية الثانية، بشريا واقتصاديا وعمرانيا، شملت جميع دول القارة الأوروبية، وأصابت شظاياها مختلف دول العالم على اختلاف أحجامها ومواقعها وأدوارها.. التقط الأوروبيون فرصةً لتغيير المسار الذي أوصلهم إلى الكارثة.. اختاروا تحويل قارتهم إلى منطقة سلام بعد أن عانوا حربين مدمرتين في القرن العشرين.. أطلقوا العنان للمشاريع الكبرى، مشروع مارشال على سبيل المثال، فانهمكوا في البناء، بناء الإنسان وبناء الأوطان ودأبوا على توفير مقتضيات كل ذلك، فانشغلوا، شعباً وسلطة، في تحقيق هدفهم الرئيسي بالحيلولة دون تفجر الحرب ثانية مهما كانت التباينات والاختلافات والتناقضات بين شعوب قارتهم وبين نماذج سلطاتهم وأيديولوجيات أحزابهم.
ترتب على وعي الإنسان الأوروبي وإدراكه أهمية كيانه ووجوده وسلامه حاضرا ومستقبلا، مزيدٌ من الانهماك في ابتكار خيارات أوسع وأشمل من نطاق حدود دولته أو قارته.. نهل الإنسان الأوروبي من فكر أسلافه، ممن سبقوه بقرون، وكأن الأوروبيين تمثلوا في هذا الاتجاه قول فيلسوفهم مونتسكيو في القرن التاسع عشر "السلام هو الأثر الطبيعي للتجارة".. اعتمدوا على التبادل التجاري والاقتصادي مع الاقتصادات المتقدمة، فحفّزوا التنمية المتبادلة مع الآخر، وأوجدوا قواسم مشتركة مع الآخرين تصب في خدمة الإنسان من خلال شرايين التجارة والعلاقات الاقتصادية والتنموية.
لازم هذا الوعيَ وهذا التوجهَ شبحُ الحروب ودمارُها وأهوالُها، فكان الاشمئزاز منها رافعة لرفضها والعمل ما أمكن على تجنب تكرارها.
لم تقتصر الاتجاهات، التي وَسَمَت وعي الإنسان الأوروبي الرافض للحرب على أبناء القارة، لقد شكلت سياقا عاما لدى جميع البشر فتساوت عند أبناء المعمورة جميعهم تلك المشاعر المناهضة للحرب.
إذا كانت الحرب العالمية الأولى حطمت وهم الاستقرار الذي ساد القارة الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، فهل ينسف النزاع الروسي الأوكراني آمال العيش بسلام على وجه القارة ويتعداها إلى عموم البسيطة؟
يجد هذا التساؤل مشروعيته من هاجسين، الأول يأتي من عدم القدرة على التكهن بمجريات هذا النزاع ومآلاته في ظل تناقض الأهداف والأولويات بين الجانبين حتى الآن، والتأجيج الذي تقوم به واشنطن ومعها دول الناتو الغربية لتسعير الحرب والتشويش على أي بارقة أمل بالتهدئة والركون إلى الحوار.
الهاجس الثاني يفرض حضوره القاتم جراء السلاح الذري الذي تتقاسمه الدول المشتبكة مباشرة، كروسيا من جانب، والمشتبكة من وراء ستار كالولايات المتحدة ومعها بعض الدول الغربية النووية كبريطانيا وفرنسا من جانب آخر.
يلخص مارتن لوثر كينج أدوات الحرب ووسائطها وما تسفر عنه في اليوم التالي بعد أن تحط أوزارها بالقول إن "الحرب إزميل سيئ لِنَحْت الغد".
أما المؤرخ الألماني "فون سيبل" فإنه يحدد مسار أي حدث انطلاقا من وقائع التاريخ وعِبَرِه العميقة بجملته الشهيرة "إن الذي يعرف من أين، يمكنه أن يعرف إلى أين".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة