في عام 1962 نشر المؤلف الأمريكي "هيرمان كان" كتابه "التفكير فيما لا يمكن التفكير به".
وكان يُقصد أنه إذا كان من المحتمل قيام حرب نووية بين القوتين العظميين في ذاك الوقت، وهما الولايات المتحدة الأمريكية واتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، بعد ستين عاماً يُطرح اليوم هذا السؤال مجددا بسبب النزاع الدائرة حالياً بين روسيا وأوكرانيا، والإجابة عن هذا التساؤل الهام هي "كلا"، لكن يجب إضافة نقطة هامة، ألا وهي أنه بعد هذا النزاع قد تزداد مخاطر حدوث حرب نووية محدودة.
إذا عدنا بالتاريخ إلى الخلف، فقد أدت الحرب الباردة إلى ظهور خبراء تم تسميتهم بـ"الاستراتيجيين النوويين"، وكانت فكرتهم الأساسية الإبقاء على حالة من الردع النووي بين أمريكا والاتحاد السوفييتي سابقا.. والردع النووي يقوم على فكرة أن كلا من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يمتلكان أعداداً ضخمة من الأسلحة النووية، والتي بمقدورها أن تدمر بالكامل الدولة الأخرى.
وكان الاستنتاج أن "روسيا الشيوعية" لن تضرب "أمريكا الرأسمالية" بالسلاح النووي والعكس بالعكس.
هذا الردع النووي لا يزال قائماً وموجوداً ما بين روسيا والولايات المتحدة، لأن في ذلك سياسة تلتزمها أي حكومة روسية، وأيضا هي سياسة تلتزمها أياً كانت الإدارة الأمريكية، سواء ديموقراطية أو جمهورية.
فأي قائد جديد لروسيا أو لأمريكا يؤكد، عند وصوله إلى قمة السلطة التنفيذية، أن بلاده ملتزمة سياسة الردع النووية، مع تعهده أيضا بتقوية دفاعات بلاده من أجل "إحلال السلام وتجنب مخاطر الحرب سواء كانت بالسلاح النووي أو التقليدي".
وإذا كانت سياسة الردع النووي ترسم الاستراتيجية الخاصة بالأسلحة النووية في أي دولة، فالأمر الهام هو أن سياسة استخدام الأسلحة النووية هي سياسة غير متهورة وتتسم بكثير من التحفظ.
ومن المؤكد أن كلا من "بايدن" و"بوتين" يفهمان أن "الحرب النووية لا يمكن كسبها ولا يجب خوضها أبدًا"، وهو بيان أقره في الأصل الرئيسان رونالد ريجان وميخائيل جورباتشوف في عام 1985، وأكدته الدول الخمس، التي تمتلك أكبر ترسانات نووية، في يناير 2022.
بعد هذا الشرح المبسط، السؤال يطرح نفسه: لماذا يتردد كثيرا في الفترة الأخيرة الحديث بأن الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا قد تكون السبب في وقوع حرب نووية؟
الإجابة تكمن في أن مسار الحرب الروسية-الأوكرانية جعل العديد من الدول تقدم السلاح لأوكرانيا، البعض من تلك الدول أعضاء في حلف الناتو، كبولندا مثلا، وهذا قد يدفع روسيا إلى مهاجمة بولندا، لو حدث هذا فستضطر أمريكا للدفاع عن بولندا، ما قد يؤدي إلى رفع منسوب التوتر ما بين أمريكا وروسيا، وقد يصل هذا التصعيد إلى إعلان استخدام الأسلحة النووية من قبل واشنطن وموسكو، وما زاد من خطورة الوضع هو تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، حيث قال: "إن الحرب العالمية الثالثة قد تكون حربا يستخدم فيها السلاح النووي"، لكن التطورات اللاحقة تجعل من هذه الأطروحة المرعبة أمرا غير محتمل.
والسؤال الآخر الواجب التوقف عنده هو: كيف ينبغي للولايات المتحدة وحلف الناتو الرد على روسيا وتقليل مخاطر اندلاع حرب نووية؟
يجب الاعتراف بأن خطر سوء التقدير والتصعيد، بما في ذلك على المستوى النووي بين الخصوم، حقيقي وعالٍ.
فعلى الرغم من أن روسيا لم تقم بعد بتحديد مواقع القوات العسكرية على طول الحدود الأوكرانية-البولندية، على سبيل المثال، فهناك احتمال أن تشارك القوات الروسية وقوات الناتو عسكريا، مما يدفع الوضع إلى الخروج عن نطاق السيطرة بسرعة.
هناك أيضًا احتمال حدوث مواجهات عسكرية قريبة في أماكن أخرى تشمل الطائرات والسفن الحربية والغواصات الروسية.
في الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة، يجب على القادة في موسكو وواشنطن وأوروبا، وكذلك القادة العسكريين في الميدان، توخي الحذر لتجنب عمليات نشر عسكرية جديدة ومزعزعة للاستقرار، والصدامات الخطيرة بين القوات الروسية وقوات الناتو، وإدخال أنواع جديدة من الأسلحة التقليدية أو النووية التي تقوض المصالح الأمنية المشتركة.
في سياق التهديد الروسي وتحليلاً للخيارات التي يمكن أن تكون مطروحة على الطاولة، ففي يوم الأربعاء 23 مارس كتب الرئيس الروسي السابق، ديميتري ميدفيديف، وهو يعتبر من المقربين للرئيس الحالي فلاديمير بوتين، كتب مقالاً في أحد المواقع الروسية الرسمية مهاجماً فيه الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قال: "إن أمريكا هي الدولة التي شنت حروباً كثيرة في مناطق كثيرة من العالم، مثل فيتنام وأفغانستان والعراق، وروسيا ما زالت مستهدفة بأسلوب اللعبة الرخيصة، وأن هذا بدأ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي".
هذا التصريح يقطع قول كل خطيب فيما يختص بالجدل الدائر عن احتمال استخدام السلاح النووي جراء الحرب الروسية-الأوكرانية الدائرة حالياً، وهذا يختلف عن أي تكهنات كانت تصدر في الماضي بخصوص احتمال وقوع حرب عالمية ثالثة ذرية.
انطلاقاً من ذلك، يجب على واشنطن اختبار ما إذا كانت موسكو جادة بشأن مثل هذه الخيارات، وإذا أمكن، إعادة بدء حوار الاستقرار الاستراتيجي -ويجب عليهما محاولة القيام بذلك قبل انتهاء صلاحية START الجديدة في أوائل عام 2026، وإلا فإن المواجهة التالية ستكون أكثر خطورة.
على المدى الطويل، لا يمكن للقادة الأمريكيين والروس والأوروبيين إغفال حقيقة أن الحرب وخطر الحرب النووية هي عدو مشترك وخسارة للجميع. ولروسيا والغرب مصلحة مشتركة في إبرام اتفاقيات تزيد من تقليص القدرات النووية الاستراتيجية المتضخمة، وتنظم الترسانات النووية قصيرة المدى في ميدان المعركة، وتضع قيودًا على الدفاعات الصاروخية بعيدة المدى.
في النهاية، المطلوب إيجاد حل حاسم للأزمة الأوكرانية في استمرار المفاوضات، بعدها يطالب الرئيس بوتين بخفض درجة الاستعداد النووي التي أعلنها بعد بداية الحرب الأوكرانية الروسية، حتى إقرار السلام، كي يتم إعادة العمل والتزام سياسة الردع النووية، والتي ما زالت قائمة، لكنها تتعرض حاليا إلى تحديات خطيرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة