مرَّ شهر على النزاع الأوكراني.. لم تفز موسكو ولا كييف.. ولم تفز أيضا دول الغرب، التي أرادت أن يكون هذا النزاع بوابة روسيا نحو "الزوال" كقوة عالمية.
ما يطيل أمد النزاع تلك الخطوط الحُمر التي يضعها جانبا النزاع، فروسيا لن توقف عمليتها العسكرية دون أن تحقق ضماناتها الأمنية، التي فشلت في الحصول عليها عبر الحوار مع أمريكا، أما الغرب فلن يسمح باستسلام كييف قبل أن "يدفع الرئيس فلاديمير بوتين ثمناً باهظاً لعمليته".. أو كما يقول رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون: "دون أن يفشل بوتين بشكل عاجل ومباشر، أو على الأمد الطويل".
ولأن الأمر بالنسبة للطرفين ليس هيّنا، ويصعب تحقيقه دون الخوض في مغامرات تنطوي على مخاطرة كبيرة، يحاول المتخاصمون التمسك بـ"6 لاءات" تبقى احتمالات اندلاع حرب عالمية ثالثة في حدودها الدنيا.
على الضفة الغربية، فإن "لا الأولى" هي للمواجهة المباشرة مع روسيا، سواء فوق أراضي أوكرانيا أو خارجها، و"لا الثانية" تتعلق بتجنب أي تصعيد في دعم كييف قد يُجبر موسكو على توسيع رقعة عمليتها لتشمل دولا أخرى في القارة الأوروبية.. أما "لا الثالثة" فتدور حول عدم السماح للرئيس الروسي بالتفكير أبعد من حدود أوكرانيا في إطار سعيه نحو تحصين أمن بلاده القومي.
إذًا "لاءات الغرب" هي "لا للمواجهة مع روسيا، ولا لتمدد النزاع الأوكراني، ولا لتمدد الطموحات الروسية بإخضاع أي دولة أوروبية".
هذه "اللاءات" تتطلب من الأوروبيين -قبل أي طرف آخر- التعقُّل والحكمةَ في دعم كييف عسكريا من جهة، ومعاداة روسيا اقتصاديا وسياسيا من جهة أخرى.. فالخطأ في كلا الجانبين قد يجرُّ الجميع إلى أماكن مجهولة في الصراع، الذي بدأت تداعياته تظهر على جميع دول العالم.
بالنسبة للروس، فـ"لاءاتُهم" تهدف في المحصلة لعدم خوض نزاع مفتوح مع الغرب.. فالردع النووي، الذي تلوّح به موسكو -"إنْ تهدَّد وجودها" كما يقول وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف- لن يكون سهلا، وعواقبه أكبر بكثير من ثمراته.. والنتيجة ستكون خسارة روسيا كل أمل في أن "يستعيد" بوتين أمجاد الاتحاد السوفييتي سابقا، كما يقول خصومه.
"لا الأولى" لروسيا تُرفع أمام التمادي في القصف إلى حدود تُجبر حتى حلفاءها على التخلي عنها.. و"لا الثانية" هي للمبادرة في توسيع رقعة النزاع لدول أوروبية أخرى.. أما "لا الثالثة" فهي ترفض قطع مصادر الطاقة عن دول القارة العجوز، لأنها تمثل "شعرة معاوية" بالنسبة لأوروبا، كما أنها ستضع موسكو في موقف اقتصادي حرج جدا، قد لا تستطيع الاستمرار في عمليتها بسببه.
"لا الأولى" هي من بين الأسباب، التي جعلت التقدم الروسي بطيئا نوعا ما.. والأسباب الأخرى تتمثل ربما في المقاومة الأوكرانية والدعم الغربي الكبير لكييف، ناهيك بأسباب لوجستية تتعلق بالقوات الروسية.
في سياق "لا الأولى" أيضا يكمن حرص موسكو على الاستمرار في التفاوض مع كييف، وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع عواصم عدة بالاتحاد الأوروبي، خاصة برلين وباريس.. بالإضافة إلى عدم رفضها أي وساطة لحل الأزمة سلمياً، مثل تلك التي تقوم بها تركيا، الدولة العضو في حلف الأطلسي، أو الصين، الحليف الاستراتيجي لروسيا.
التصريحات والأفعال العسكرية الروسية تدلل على "لا الثانية" بوضوح، وتشدد على عدم رغبة موسكو في خوض مواجهة مفتوحة ومباشرة مع حلف الناتو.. إنها تستهدف الدعم الغربي لكييف عندما يدخل الأراضي الأوكرانية فقط، رغم أن الحشود العسكرية الأمريكية في دول أوروبا وتسليح واشنطن ولندن لجوار أوكرانيا قد ازداد بشكل كبير خلال شهر واحد، وهو بحد ذاته أمر يقلق الروس ويثير حفيظتهم.
رد الفعل، وليس الفعل، هو اللغة التي تستخدمها روسيا حتى الآن في الرد على العقوبات الاقتصادية والسياسية الغربية.. عبر هذه القاعدة تحافظ موسكو على "لا الثالثة"، المتعلقة بعدم وقف إمدادات الطاقة عن دول الاتحاد الأوروبي.. وعبرها أيضا "تنتقم" روسيا من الدول والشركات "العدوّة"، التي تفرض عليها العقوبات وتضيّق عليها الخناق.
دول الاتحاد الأوروبي لم تفرض حتى الآن عقوبات على النفط والغاز والفحم الروسي.. صحيح أن الدافع هو خوفها من تداعيات هذه الخطوة على شعوبها واقتصاداتها، ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أن روسيا لم تستغل موارد طاقتها لتلوي ذراع التكتل، كما روّجت أمريكا قبل اندلاع النزاع الروسي-الأوكراني وخلاله.
جُل ما لجأت إليه موسكو هو المطالبة بتسوية مدفوعات صادرات الطاقة لدول أوروبا بالعملة المحلية، "الروبل"، وهو أمر لا يخالف مبدأ رد الفعل الذي تتبعه، مع تحقيقه إحداث ضرر كبير على اقتصادات هذه الدول.
في المحصلة، الحفاظ على "لاءات المتخاصمين" هو فقط ما يُبقي على فرص العالم لاحتواء هذا النزاع في غضون أشهر معدودة.. أما التخلي عنها فيعني الانزلاق إلى كارثة تمتد ربما لسنوات، وتطال دولا كثيرة تبعد عشرات ومئات آلاف الأميال عن روسيا وأوكرانيا.
لقد أثبتت التجارب الكثيرة أن النزاعات العسكرية، أينما وقعت، تخلق أزمات تتجاوز الحدود الجغرافية، وتقفز فوق كل الاحتياطات والتحوُّطات، التي يمكن أن تتبناها الدول لحماية اقتصاداتها ولقمة عيش شعوبها، ومَن لم يدرك هذه الحقيقة إلى الآن فإما أنه يعيش على النزاعات ويقتات منها، وإما أنه يخطط للعيش قريبا جدا على كوكب آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة