حين دارت رحى الحرب الأشهر في تاريخ العرب، والمعروفة بـ"حرب البسوس"، حشد أبناء العمومة الأنصار والحلفاء، وسعى كل فريق لتمتين جبهته لضمان إحراز النصر على خصمه، الذي كان قبل اندلاع الحرب أقرب المقربين.
وفيما كان الفريقان يتأهبان لجولة جديدة من جولات الصراع الدامي الذي استمر لنحو أربعين عاما، كان هناك من اختار "عدم الانحياز" لأي من الفريقين، كان هذا أحد أشهر فرسان العرب وفصحائهم "الحارث بن عباد"، الذي اعتزل الحرب وأمر أهله وعشيرته بعدم الانخراط فيها حتى لا تتلوث أياديهم بدماء الأهل وذوي القربى، وأطلق ساعتها مقولته الخالدة التي صارت مثلا "هذه حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل".
وظل الحارث بن عباد على حالة "عدم الانحياز" حتى قرر بعد أن أفزعه استمرار شلال الدم المسفوك، الانتقال لمرحلة "الحياد الإيجابي"، واقترح أن يرسل ابنه "جبير" إلى الزير سالم، وحمّله كتابا لـ"الزير" قال فيه كما تقول الرواية: "إنك قد أسرفت في القتل وقد أرسلتُ ابني إليك، فإما قتلته بأخيك (يعني كليب) وأصلحت بين الحيين، وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى في هذه الحروب مَن كان بقاؤه خيرا لنا ولكم".
وحين قرأ "جبير" رسالة أبيه على المهلهل سالم الزير، استشاط غضبا وقتله وهو يردد "بل بشسع نعل كليب"، بمعنى أن جبيرا لا يساوي كليبا، بل لا يساوي حتى رباط نعله.
حتى صارت مقولة الزير سالم مثلا هي الأخرى، وحين علم الحارث بن عباد بالأمر دخل الحرب ضد الزير سالم وكاد أن يقتله لولا خديعته إياه.
خليج الخنازير
في أكتوبر عام 1962 اندلعت أزمة الصواريخ الكوبية، التي استمرت 13 يوما، عاش العالم خلالها حابسا أنفاسه خوفا من اندلاع حرب نووية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، قبل أن يتفق الطرفان على طريقة "لا غالب ولا مغلوب"، لتنتهي الأزمة بتدشين خط ساخن بين "البيت الأبيض" والكرملين لتلافي تكرار هذا النوع من الأزمات.
كوبا جزيرة تقع على بعد 90 ميلا من ساحل فلوريدا في الولايات المتحدة، وكانت قبل عام 1959 تحت قيادة الجنرال باتيستا، في حالة تحالف مع الولايات المتحدة، لكن في هذا العام اندلعت الثورة في كوبا بقيادة فيدل كاسترو، الذي لم يكن يريد معاداة الولايات المتحدة، لكن الرئيس الأمريكي آنذاك، آيزينهاور، رفض مقابلته وتعامل معه بغطرسة، دفعته إلى أن يوجه بوصلته نحو الاتحاد السوفييتي بعد لقائه الزعيم السوفييتي خروشوف.
وفي عام 1960 أمّم كاسترو جميع الشركات المملوكة للولايات المتحدة في بلاده، وردت أمريكا بحصار كوبا وفرضت عليها حظرا تجاريا واسع النطاق.
وفي أبريل 1961، تولى جون كينيدي رئاسة أمريكا، وبعدها مباشرة وافق على خطة غزو كوبا والإطاحة بفيدل كاسترو.
ودفعت أمريكا بنحو 1400 من الكوبيين الذي فروا من كوبا بعد الإطاحة بحكم باتيستا، وأنزلتهم داخل كوبا، لكن دون أي غطاء عسكري أمريكي، بعد أن أوقف كينيدي أمر الدعم الجوي لهم، فكانت القوات الكوبية في انتظارهم وقضت عليهم جميعا، إما بالقتل أو بالأسر.
بعدها، في 14 أكتوبر 1962، التقطت طائرة تجسس أمريكية تحلق فوق كوبا، صورا تُظهر بناء مواقع إطلاق صواريخ سوفييتية.
وقدر الخبراء أنها ستكون جاهزة للعمل في غضون 7 أيام. ثم اكتشفت طائرة تجسس أمريكية أخرى 20 سفينة سوفييتية تحمل صواريخ نووية في المحيط الأطلسي، متجهة إلى كوبا.
لم يكن "كينيدي" ليتجاهل هذا الخنجر النووي المغروس في خاصرة بلاده، فبدأ باتخاذ خطوات سريعة للرد، وفرض حصارا محكما على كوبا للحيلولة دون وصول الصواريخ النووية السوفييتية إليها، وارتفعت درجة حرارة المواجهة ووقف العالم على أطراف أصابعه.
وهنا بدأت الاتصالات بين الجانبين، برسالة خروشوف الأولى في 23 أكتوبر، التي قال فيها: "إن السفن السوفييتية لن تتوقف عند الحصار، لكنها ستشق طريقها"، لكنه ربما تجنبا للدخول في مواجهة مباشرة قرر ألا تكمل الصواريخ طريقها نحو كوبا، وإن بقيت عمليات بناء القواعد مستمرة.
وبعدها أرسل خروشوف رسالة أخرى لكينيدي، مفادها أنه سيوقف إرسال الصواريخ فقط إذا أنهت أمريكا حصارها على كوبا ووعدت بعدم غزوها، ثم لحقها بطلب آخر كشرط لإنهاء الأزمة، وهو "مواقع الإطلاق ستتم إزالتها فقط إذا أزالت الولايات المتحدة صواريخها في تركيا".
المهم أن الأزمة انتهت واعتبر الجانبان أنهما حققا النصر: فقد أنقذ خروشوف النظام الشيوعي في كوبا من غزو الولايات المتحدة، وتفاوض على صفقة مع الولايات المتحدة بشأن إزالة صواريخ "جوبيتر" الخاصة بها في تركيا. ومن جانبه، حافظ "كينيدي" على وعده الانتخابي ووقف في وجه الاتحاد السوفييتي، وأبقى الصواريخ النووية خارج كوبا.
والأهم من ذلك، أن الجانبين أدركا أنهما كانا على شفا حرب نووية، ودخلا في محادثات أدت في النهاية إلى معاهدة حظر التجارب عام 1963، التي بدأت عملية إنهاء تجارب الأسلحة النووية.
الحرب في أوكرانيا
13 يوما كانت هي عمر أزمة الصواريخ الكوبية التي استعاد العالم تفاصيلها بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتوقع البعض أن تنتهي على طريقة أزمة الصواريخ الكوبية، وفي مدى زمني لا يزيد كثيرا عن الـ13 يوما، لكن ما حدث أن رحى الحرب ما زالت دائرة، وأن إدارة بايدن/بوتن للحرب في أوكرانيا تختلف كثيرا عن إدارة كينيدي/خروشوف للأزمة في كوبا، وأن -وهذا هو الأهم- عالم الستينيات يختلف اختلافا جذريا عن العالم الذي نعيش فيه الآن.
في أزمة كوبا كانت حركة عدم الانحياز والحياد الإيجابي في أوج حضورها، لكنها لم تشتبك مع الأزمة اشتباكا نشطا، وإن حافظت على خطابها الداعي لتجنب الحرب والحفاظ على أسس استقرار الأمن والسلم الدوليين.
وفي حرب أوكرانيا، حافظت قوى مهمة على حيادها، وإن بدت راضية بحركة التحول الكبير في موازين القوى الدولية، وبداية نهاية عصر القطب الأمريكي الأوحد.
الحضور العربي
في حرب أوكرانيا ظن قطاع من صانعي القرار في عدد من الدول العربية، أن بإمكانهم اتخاذ موقف الحارث بن عباد، القائل إن "الحرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل".
لكن هؤلاء سرعان ما اكتشفوا أن نيران الحرب تطال الجميع، وأن انتهاج سياسة "الحياد الإيجابي" هي الأفضل من سياسة "عدم الانحياز"، وأن ثروات العرب الطبيعية من البترول والغاز وضعتهم في عين العاصفة، كما أن تعقيدات الأوضاع الإقليمية وتشابك مصالح العرب بين طرفي الصراع لن تدعهم بعيدين عن نيران الحرب المستعرة.
إن لعبة عض الأصابع الدائرة حاليا بين أمريكا وحلفائها من جانب، وروسيا وداعميها من جانب آخر، انتظارا لمن يصرخ أولا، إنْ تُركت على حالها فسيطول أمد الحرب.
لكن في حالة تمكن لاعبون آخرون من الدخول على خط الأزمة لتخفيف الضغوط على طرفي الصراع، وإيجاد سبيل للخروج الآمن من دائرة المعارك، فمن الممكن التوصل إلى صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، تماما كما حدث في أزمة خليج الخنازير.
وفي تقديري أن قوى عربية يمكنها -بالتنسيق مع قوى إقليمية ودولية أخرى- أن تلعب هذا الدور، ليس من أجل إنهاء الحرب وحسب، ولكن أيضا من أجل تعزيز حضورنا العربي في عالم يُعاد رسم خرائطه وموازين القوى فيه.
نقلا عن سكاي نيوز عربية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة