تنتشر أدوات "التجهيل السياسي" عبر المنصات الرقمية بسرعة تفوق قدرة المجتمعات على التصدي لها.
هذه الأدوات تتمثل في نشر الطائفية المقيتة، والإساءات، والشتائم، والشائعات التي تعبث بالنسيج الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية، وتزرع بذور الفتنة والانقسام. والنتيجة واحدة: "شرقنا الممزق"، الذي يتهاوى تحت وطأة الانقسامات والخلافات.
في المقابل، تبدو الأدوات القانونية غائبة أو مغيبة عن المشهد، في ظل فوضى إعلامية تقودها منصات رقمية تسيطر عليها جهات خارجية. تتحكم فيما يُبث، بل وتقرر ما يصبح "ترند" في عالم الترندات، ما يجعل التحكم في الخطاب العام أمراً صعباً ومُعقداً.
المُستفيد الأول من هذه الحالة هي الجماعات المتطرفة والمليشيات الإرهابية، التي حولت هذه المنصات إلى منابر لنشر أفكارها المتطرفة، وخطابات الكراهية، وأجنداتها الخفية التي تعزز الانقسامات المجتمعية، وتفتح المجال أمام الفوضى والعنف.
هذه الجماعات تستغل الثغرات القانونية والفراغ الرقابي في هذه المنصات الرقمية للتأثير على العقول، خصوصاً الشباب، الذين يجدون أنفسهم في مواجهة محتوى مضلل، ومشحون، بالكراهية والعنف، والإرهاب.
ووجدت المليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية في هذا المناخ الرقمي المليء بالكراهية والانقسامات، فرصة ذهبية لتحقيق أهدافها؛ حيث تستغل هذه الكراهية كوقود لنشر التطرف وجذب المتعاطفين، كما تعمل هذه المليشيات على تضخيم الخلافات الطائفية، والعرقية، والدينية، وتستخدم الخطاب العدائي لتحريض المجتمعات ضد بعضها، ما يؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي وخلق حالة دائمة من التوتر والعنف، فضلاً عن المحتوى الموجه بشكل دقيق يستهدف الفئات الأكثر هشاشة في المجتمعات، مستغلة شعورهم بالظلم أو الإحباط لتحويلهم إلى أدوات تخدم أجنداتها التخريبية.
ليس ذلك فحسب، بل إن هذه المليشيات تدير حملات دعائية متقنة عبر المنصات الرقمية، تقدم من خلالها نفسها كجهات مدافعة عن حقوق الفئات المهمشة أو المظلومة، في محاولة لاستقطاب الدعم الشعبي. كما تُستخدم هذه الحملات لنشر بروباغندا منظمة تهدف إلى تجنيد العناصر، وجمع التبرعات، والتأثير في الرأي العام المحلي والدولي.
كما تستغل الجماعات الإرهابية، التحديات التقنية التي تواجه الحكومات في رصد وتتبع أنشطتها الرقمية، ما يمنحها مساحة واسعة لنشر خطابها وإدارة شبكاتها السرية، بعيداً عن أعين الجهات الرسمية.
ولمواجهة هذا التحدي، أصبح من الضروري تبني استراتيجيات شاملة تجمع بين الأبعاد القانونية، والتقنية، والمجتمعية؛ إذ يجب على الحكومات العمل على صياغة تشريعات واضحة وفعّالة تسهم في تنظيم المحتوى الرقمي، ومساءلة المنصات عن المواد التي يتم نشرها، مع تعزيز الشفافية في عملياتها.
وتمثل التوعية المجتمعية أيضاً ركيزة أساسية في بناء مقاومة فكرية وثقافية لهذه الأدوات التخريبية. وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية، التي ينبغي أن تعمل بشكل استراتيجي على تعزيز قيم الحوار، والتفكير النقدي، ومهارات التحقق من الأخبار.
وعلى الصعيد التقني، يتطلب الأمر استثماراً في تطوير حلول مبتكرة، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي لرصد المحتوى الضار، وتصنيفه بشكل دقيق وسريع، بما يساعد على التصدي للمعلومات المغلوطة قبل أن تنتشر، كالنار في الهشيم.
إن الحرب ضد "التجهيل السياسي" ليست مسؤولية الحكومات وحدها، بل مسؤولية جماعية تتطلب تنسيقاً دولياً وإقليمياً لمواجهة التحديات المشتركة التي تفرضها هذه المنصات؛ فمستقبل المجتمعات يعتمد على قدرتنا على حماية الأجيال القادمة من الوقوع في براثن التلاعب والتضليل الرقمي، والعمل على بناء فضاء رقمي آمن ومستنير يخدم تطلعات الإنسانية نحو الاستقرار والتقدم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة