يعتقد "السلطان" أن الوقت قد حان لبعث الإمبراطورية العثمانية من جديد، كما يظن أن أمريكا وروسيا تؤيدانه في هذا.
لا نذيع سرا بالقول إن تركيا اليوم تعاني أزمة في علاقاتها الخارجية، فقد تحولت إلى خصم لحلفاء الأمس، وازدادت الهوة بينها وبين أعدائها السابقين حتى تضاءل الأمل بالمصالحة معهم إلى حدود العدم، أما أحسن الصور فهي تحول أنقرة إلى أداة بيد واشنطن للحد من نفوذ موسكو في المنطقة العربية.
في رد وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية د. أنور قرقاش على وزير الدفاع التركي يستوقفك ذلك التشخيص الدقيق لأزمة تركيا، واختصاره بكلمات قليلة لا تزيد عن الواقع ولا تنقص منه شيئاً، نظام رجب طيب أردوغان يريد "إعادة إحياء الدولة العليّة" وتقرير مصير دول المنطقة "بفرمانات من السلطان".
لا يقبل أردوغان تصديق أن ذلك الزمن اندثر في أرشيف التاريخ، كما يقول قرقاش، على العكس تماماً، يعتقد "السلطان" أن الوقت قد حان لبعث الإمبراطورية العثمانية من جديد، كما يظن أن أمريكا وروسيا تؤيدانه في هذا، وتتطلعان بشغف إلى توقيع اتفاقية لوزان جديدة معه ضد العرب والأوروبيين.
لن يكف أردوغان عن هذا المسعى وسيزيده ضجيجاً كلما اقترب تاريخ انتهاء مفعول اتفاقية لوزان الحالية التي وقعتها أنقرة مع دول أوروبية عدة في 1923، لقد بشر به وبدأ تنفيذه، ثم صدحت منابره تروج لليوم المنتظر الذي ستنهض فيه العثمانية من تحت رماد، وأوهام تحول الرئيس إلى "خليفة للمسلمين".
هذا ما يفعله أردوغان في ليبيا وسوريا والعراق وشرق المتوسط، وهذا سبب عدائه للإمارات ومصر وغالبية الدول الأوروبية، فكل من يعارض هذا المشروع هو خصم وعدو، أما المؤيدون فهم إما أتباع للسلطان، أو حلفاء للدولة العليَة المشيدة بأذرع الإخوان و غيرهم من جماعات الإسلام السياسي.
هذا سبب آخر لمعاداة تركيا أردوغان للإمارات ومصر، ولكل دولة ترفض هيمنة هذه الجماعات على العالم العربي، لم يعد خافياً على أحد أن الإخوان ومن لف لفيفهم يرون في أردوغان مرشداً وخليفة، وهو يجد فيهم حصان طروادة الذي سيمكنه من احتلال دول عربية وأفريقية عديدة بأقل التكاليف.
يتقن الإخوان وأشباههم وموظفوهم هذه اللعبة ويبشرون "بزعيم الأمة الإسلامية" المنتظر، يسخرون منصاتهم الإعلامية التقليدية منها والجديدة، في سبيل تعميم هذه الفكرة وإقناع الجمهور العربي بها، وما فعلوه عند تحويل متحف أيا صوفيا في تركيا إلى مسجد، خير نموذج ودليل على عملهم.
تحويل آيا صوفيا بحد ذاته كان بمثابة إعلان عن عودة الدولة العليّة ومساعي أردوغان لإحياء الإمبراطورية، فآيا صوفيا كان مسجداً في ظل الدولة العثمانية وتحول إلى متحف في عهد الجمهورية التركية، لذلك تعكس إعادته إلى وضعية المسجد الآن رغبة السلطان بالعودة في الزمن إلى ما قبل 1923.
العودة في الزمن ستفجر حقدين دفينين لدى أردوغان وأنصاره، الأول على شعوب العرب التي ثارت على الإمبراطورية العثمانية وحررت بلادها من احتلال دام لأكثر من نصف قرن، وأخر على الدول الأوروبية والغربية التي رسمت لرجل أوروبا المريض حدوده التركية الحالية.
ولاشك أن الاحتلال والسيطرة على ثروات أو أراض أو بشر من الدول التي أخرج منها أجداد أردوغان، هو الانتقام الأفضل والمتنفس المثالي عن الحقدين المتراكمين على مدار مئة عام تقريبا، وفي سبيل هذا الانتقام يرسل الجنود ويسخر المرتزقة وتتحرك السفن والطائرات لأميال وأميال خارج الحدود.
ثمة حقد ثالث يتحرك على وقعه السلطان مع قواته ومرتزقته للهيمنة على المنطقة، ألا وهو حقد جماعات الإسلام السياسي على الحكومات التي تنبهت مبكرا لخطرهم فحظرتهم وحاربتهم، هذه الجماعات تريد من أردوغان أن يحتل الأوطان التي فشلوا في حكمها، أو فشلوا في تخريبها ونشر الموت فيها.
ولأن هذه الجماعات، وعلى رأسها الإخوان، تبذل كل ما هو غال ونفيس من أجل التبشير بالاحتلال العثماني ودعمه إعلاميا وماديا وعسكريا، كان من الطبيعي أن تنقم على من يعارض خطط إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية، ويسخر إمكاناته لفضح هذه الخطط وأدواتها وأساليبها ودوافعها الحقيقية.
وفق هذا السياق فقط يمكن فهم تلك المقابلة التي أجرتها قناة الجزيرة القطرية مع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، فلا شيء فيها يحيد عن مساعي الترويج للاحتلال العثماني الجديد، وكل ما قيل فيها علناً أو بين السطور، ينضح بالنقمة والعداء لكل الدول التي تعارض هذا الاحتلال وأدواته وأجنداته.
ولأن الوهم هو ما يبيعه أردوغان وأدواته للداخل التركي وخارجه، تسمع أكار يقول إن قواته ذهبت إلى سوريا وليبيا وغيرها، من أجل نصرة شعوبها، ولكن كيف ينصر محتل شعباً بذل الدم للتحرر من براثنه؟ .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة