خرج الجمهور اللبناني يستغيث بالرئيس الفرنسي ماكرون، بعد أن يئس من الاستغاثة بحكامه وقادته الذين لم يصغوا إليه.
وسط انتقادات المعارضة الفرنسية واحتفاء الجماهير اللبنانية بزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت بعد مرور يومين على التفجيرات الدامية، استطاع الرئيس الفرنسي أن يوصل رسالته إلى الطبقة السياسية اللبنانية في مواجهة الواقع السياسي والاجتماعي المتردي في البلاد. من بين منتقديه النائب ومنافسه في الانتخابات الفرنسية، جان لوك ميلانشون، الذي ذكر الرئيس الفرنسي بأن "لبنان ليس محمية فرنسية"، وكتب على حسابه في تويتر: "أحذر من التدخل في الحياة السياسية في لبنان"، إلا أن الرئيس الفرنسي أكد أن هدف الزيارة "تنظيم المساعدة الدولية" للبنان، وضرورة ايجاد ما أطلق عليه "حوار الحقيقة"، واجراء الإصلاحات في ميادين الطاقة والمشتريات العامة ومكافحة الفساد، ثم حذر الطبقة السياسية بقوله "إذا لم يتم إجراء هذه الإصلاحات، فإن لبنان سيغرق".
وفي الوقت ذاته، انطلقت أصوات أخرى تتساءل مثل النائب الأوروبي رافائيل غلوكسمان، قال: "هل يُعقل أن تكون فرنسا غائبة عن شعب قريب منها مثل الشعب اللبناني بعد حلول الكارثة العصيبة؟". وطالب ماكرون "بوضع حدٍ للفساد الأسطوري الذي تعاني منه البلاد، وهذا مطلب الجماهير اللبنانية".
خرج الجمهور اللبناني يستغيث بالرئيس الفرنسي ماكرون بعد أن يئس من الاستغاثة بحكامه وقادته الذين لم يصغوا إليه طيلة فترة التظاهرات الاحتجاجية، بعيدين عنه في أبراجهم العاجية. فيما يرى البعض أن الرئيس ماكرون تصرف وكأنه وصي على حياة اللبنانيين رغم ما اتسّم به خطابه من شفافية عالية، واصفًا الأزمة التي يعاني منها اللبنانيون بأنها "أخلاقية وسياسية واقتصادية في آن واحد". ولكن الحقيقة القاسية تقول شيئًا آخر، أي أن الاصلاحات التي يطالب بها الرئيس الفرنسي لا يمكن أن تُنفذ في ظل الحكم القائم على المحاصصة الطائفية التي أرهقت البلد واستنزفت موارده وأوصلته إلى حافة الإفلاس والفقر.
لا يزال ملف انفجار المستودع رقم 12 غامضًا، وتداعياته الرهيبة على حياة الشعب اللبناني كبيرة، أكثر من ربع مليون شخص فقدوا منازلهم أو وظائفهم وموارد رزقهم، ورغم ذلك واجهت الطبقة السياسية هذه الأوضاع بالاستخفاف والإهمال في بادئ الأمر، بل واعتبرت ما حصل في مرفأ بيروت مجرد انفجار مفرقعات وألعاب نارية، قبل أن يستيقظ الشعب اللبناني على هول الخراب الشامل الذي طال نصف بيروت الحيوي أي مرفأ بيروت وما يحيط به من حياة. كانت هذه "المفرقعات" عبارة عن 2750 طناً من نترات الأمونيوم مخزنة منذ عام 2014، تعددت بصدده حكايات متناقضة وغامضة، ورغم التحذيرات المتعددة بصدد خطورته، لم تحرّك الحكومات المتعاقبة ساكنًا للبت في موضوع هذه الشحنة الخطيرة والمشبوهة والغامضة.
مهما عبّر عنه الرئيس الفرنسي من عواطف وانفعالات عاجلة بصدد الضحايا ومصير البلد والإصلاح والطبقة السياسية، تبقى فرنسا تتحرك ضمن الضوابط والحقائق الاقتصادية والمالية. أما على الصعيد السياسي، فالزيارة هي المفتاح الأول لكل دعم أوروبي ستحظى به لبنان، لأن فرنسا تتمتع بثقل كبير في الاتحاد الأوروبي، ورأيها مسموع في العالم أجمع. لذلك دعا ماكرون إلى عقد مؤتمر دولي لدعم لبنان.
لكن هذه الزيارة أثارت الكثير من اللغط، فهي أبوية أكثر مما هي أخوية، فلا يزال الماضي الاستعماري له ذاكرته وصداه، رغم أنه أصبح من الماضي، وربما هذا ما دفع 36 ألف لبناني إلى توقيع عريضة يطالبون بها إعادة الانتداب الفرنسي على لبنان بطريقة مُخجلة. ولا ندري هي صيحة اليائس أم رجاء المستغيث؟ .
لبنان ليس بلدًا منكوبًا بهذه الكارثة، بل هو منكوبٌ بطبقة سياسية همشّت الدولة لصالح أحزابها وطوائفها ومصالحها. هذه الطبقة السياسية، وبمشاركة أحزابها عملت على تغييب الدولة من أجل أهداف قصيرة المدى. وفي غياب هذه الدولة حدثت الكارثة وكأن الانفجار الكبير أطلق رصاصة الرحمة على هذه الطبقة السياسية وأصابها بالشلل. يعرف الرئيس ماكرون هذه الحقيقة معرفة جيدة، ومبادرة زيارته، وهي الأولى لرئيس دولة أجنبية بعد الكارثة، أثارت الشارع اللبناني، خاصة وأنه جاء معبّرًا عن الحزن والحداد والتآزر مع الضحايا، مرتديًا ربطة سوداء في إشارة رمزية عميقة، فيما اسقبله الرئيس اللبناني ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان بربطات عنق زرقاء، ما أثار حفيظة أتباع شبكات التواصل الاجتماعي الذين علقوا بالسخرية والتهكم من منظمي البروتوكولات للرئاسات الثلاث.
استُقبل الرئيس الفرنسي الذي نزل إلى مكان الحدث وشوارع بيروت، متفقدا أحوال الناس والخراب، بحفاوة كبيرة، لم يتم بها استقبال رؤسائهم، لأن هذه الجماهير تبحث عن أية قشة إنقاذ تتعلق بها، غير عابئين لجائحة كورونا وما تتطلبه من الالتزام بالتباعد الاجتماعي. وهذا ما يدل على الفراغ الموجود في قيادة البلد والافتقار إلى هيمنة الدولة على زمام الأمور.
إن أوضاع لبنان معروفة لدى فرنسا والعالم أجمع، بأنه يعاني من حالة الفشل والعجز والموت السريري، لكن الطبقة السياسية لا تزال ماضية في نهجها في الخضوع إلى الأحزاب الفاسدة والمحاصصة الطائفية وهيمنة حزب مسلح يجاهر بالتبعية لإيران، لا الولاء للوطن اللبناني، وبيده مفاتيح الحرب والسلام.
ولا تزال الإجابات غامضة حول الكميات الهائلة من نترات الأمونيوم التي تم تخزينها في مستودع بالمرفأ، علما أنها توجد في فرنسا الكمية ذاتها من هذه المادة لكنها موزعة على أكثر من مئة موقع تُحفظ في درجات حرارة معينة، ويتم فحص حالتها شهريًا، ومحاطة برقابة أمنية فائقة، وتستخدمها للأغراض العلمية والانتاجية والزراعية والصحية. وكان الجدير بلبنان أن يستفيد من هذه المادة وفوائدها.
مع التظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت قبل عام، كان الجميع يتمنى أن تتشكّل طبقة سياسية وطنية بعيدة عن المحاصصة الطائفية، وهذا ما لم يحدث. واللبنانيون إذ يستغيثون بفرنسا، إنما يعبرون عن أملهم في إيجاد حلول لأزماتهم المتلاحقة بعد أن يئسوا من قادتهم. ويعلم الجميع أن عهد الوصاية السياسية قد انتهى إلى غير رجعة، وفي الوقت ذاته، انتهت معه المحاصصة الطائفية التي لم تفلح في حل الأزمة بل تعايشت معها للحصول على المزيد من المزايا والمصالح إلى أن جاءت الانفجارات الأخيرة، وفضحت المستور الواضح للعيان: فشل الطبقة السياسية في حل مشكلات الحاضر والمستقبل في لبنان.
ما الذي ينتظره اللبنانيون من حكوماتهم بعد هذه الكارثة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة