في كتابه الرائع "من حرّك قطعة الجبن" يروي الراحل سبينسر جونسون قصة فأرين ورجلين من فئة عُقلة الإصبع يعيشون جميعًا في متاهة قرب زاوية فيها كمية جبن هائلة..
وبمرور الأيام لم يلاحظ الرجلان تناقص كمية الجبن، ليستيقظا في يوم من الأيام ولا جبن هناك، وبقيا يومهما يتساءلان بغضب عمّن أخذ الجبن ولماذا؟ ومَن دفعه لذلك؟ وهل سيعود غدًا لسرقته أيضًا؟
واستمرت هذه النقاشات والجدليات لأيام عدة حتى كادا يموتان جوعًا، حينها قرّر أحدهما أن يُغامر بدخول المتاهة المظلمة، التي حذّره صاحبه بأن يتجنبها حتى لا يتعرّض للأذى، لكنه رأى أن في بقائه موتًا حتميًّا، وأنّ بالمغامرة وتغيير ما بإمكانه تغييره قد يُكتب له نجاة من وضعه ذلك.
بالفعل يبدأ في تغيير ما اعتاده، ويبدأ استكشاف المتاهة المظلمة، ويشعر بالراحة كلما سار أكثر وتأقلم مع تجربته الجديدة، ليجد قطع جبن في الطريق تُطفئ نار جوعه، ثم يصل أخيرًا إلى مكان مليء بالجبن، والمفارقة أنّه وجد الفأرين اللذين سألاه باستغراب عن سبب تأخره، ليوصل المؤلف فكرة أنّ البشر افتقدوا التأقلم السريع مع المتغيرات مثل بقية الكائنات التي يفتخر عليها بعقله ومنطقه، لكنه المنطق ذاته الذي جعله أسيرًا لنمطه القديم وأضاع وقت البحث في جدليات ونقاشات لا طائل من ورائها.
ما أرمي إليه من هذه المقدمة المسهبة أنّ المجتمعات قد دخلت بالفعل في عصر مختلف، وما لم تُسارع بالتأقلم والتفاعل مع متغيراته وتعديل أنماط عاداتها وما أَلِفَته في السابق فإنها ستُعاني كثيرًا، تلك المتغيرات مسّت الجانب الاجتماعي والجانب الاقتصادي والجانب الديني، والتأقلم والتفاعل لا يعني الموافقة، لكن تتكيّف مع التغيرات الاقتصادية تحديدًا وتعيد استرجاع دور التأسيس الديني والقيمي والاجتماعي والمحافظة عليه للنواة الرئيسية للمجتمع، وهي الأسرة.
أُعيد كثيرًا أهمية أن تضطلع الأسرة بدور محوري في التصدي للهجمات التغريبية التي تستهدف النشء تحديدًا، وينتقدني البعض بأنني أحاول تحميل الأسرة أدوارًا لا تستطيعها في ظل انشغال الأبوين بالعمل طوال النهار، وأنّ مواجهة التغريب والإفساد ومحاولات زعزعة منظومة القيم والتشكيك بالدين وتهميش اللغة العربية هو دور المؤسسات الحكومية، وهذا أمرٌ لا نختلف عليه، لكن عندما نشاهد مستوى ومساحة وكثافة التغريب والإفساد القادم فإنّ ذلك يجعل المسؤولية تقع أولا على الأسرة، لأنّ للأب والأم سلطة تأثير، كما أن لهما نفوذًا فوريًّا فيها، وأنّ انتظار الغير -بما فيه المؤسسات ذات العلاقة- أشبه ما يكون بالتملّص من المسؤولية، ولن ينفعنا بعدها "فشة الخلق" في المقالات أو التغريدات أو رسائل "الواتس آب" أو مقاطع الفيديو، فكل البكائيات وأشعار الرثاء لم تُعِد حقًّا مُضاعًا أو إنسانًا راحلا.
أما في ما يتعلّق بالجانب الاقتصادي، الذي أصبح حديث الساعة، فإن الوقت قد حان لكي يعيد الجميع "الـمُتأثِّر" حساباته، وبدلا من انتظار حلول خارجية يُفترَض أن يقوم الإنسان بما يمكنه من أجل تقليل الضرر قدر الإمكان، فتكلفة المعيشة في ازدياد، ومعدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية للنقود أصبحت ملاحظة، وهو أمر عَمَّ أغلب دول العالم، إنْ لم يكن جميعها، فمراجعة طريقة الإنفاق وطريقة الاستهلاك والبحث عن وسائل لشد الأحزمة أصبحت ضرورة لا يجوز التهاون أو التأخر في تبنّيها.
لا أسخر معاذ الله أو أحاول "العكننة" على الناس، ولكن من يمر على منصة اليوتيوب مثلا سيجد فيديوهات كثيرة جدًّا عن كيفية ترشيد الكثير من الأمور، التي تُقلّل بالتبعية قيمة الفواتير "اللي تسمّ البدن" في نهاية الشهر، إضافة إلى تجارب جريئة لخلق جوانب اكتفاء ذاتي من الطعام بالتركيز على زراعة منزلية لأشجار فاكهة وخضار مثمرة، وأمثالها من الحلول، وهي أمور في متناولنا، وتعلّمها أصبح مهمًا لمواجهة الصعوبات الطارئة.
نحتاج إلى أن نصحو على حقيقة أنّ الأمور تغيّرت، وأن الظروف المقبلة المتأثرة بالاحتقان السياسي والصدام العسكري لدول كبار العالم وتأرجح أسعار الطاقة وتأثر خطوط إمداد الأغذية، والحبوب تحديدًا، ستكون أصعب، وعلى الرغم من يقيننا بأنّ الحكومة ستقوم بالكثير من أجل مواطنيها كما اعتدنا ذلك منها، فإنه من المهم أن نتغيّر نحن، ونُغيّر من أنماط حياتنا، ومن عاداتنا في الشراء والتنقّل والاستهلاك، فقيامنا بعمل الأمور نفسها سيؤدي بنا "دومًا" إلى النتائج ذاتها، والحلول تأتي بالتكيّف مع المتغيّرات و"اللعب" بما نملك من أوراق في أيدينا، ولن تأتي أبدًا بالتشكّي وإبداء الاستياء.
نقلا عن "البيان" الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة