نجح بوتين حتى الساعة في منع اندلاع حرب واسعة. لكن هذا النجاح يبقى محفوفاً بالأخطار.
يكره فلاديمير بوتين مشهد النعوش الروسية الوافدة من سوريا، حرص منذ البداية على تفاديه، يعرف أن النعوش تثير مخاوف من التورط والغرق حتى لو كانت قدرة موسكو على الاحتمال تفوق قدرة واشنطن في هذا المجال. ولهذا السبب هندس التدخل العسكري الروسي في سوريا بطريقة تعفيه من هذه المشاهد وأي تذكير لمواطنيه بالحقبة الأفغانية. تدخلت روسيا جواً ولم ترسل فرقاً برية إلى أرض المعارك، أوفدت مستشارين يرافقون الجيش السوري ونشرت الشرطة العسكرية في بيئات آمنة.
ويمكن القول إن سيد الكرملين قد نجح، قرأ باكراً أن باراك أوباما لا ينوي اصطياد روسيا في سوريا، وأن عينه على اتفاق نووي مع إيران، ولهذا السبب لن يزود المعارضة السورية بصواريخ مضادة للطائرات، ولن يسمح للحلفاء بإدخال مثل هذه الأسلحة إلى الأراضي السورية، أي أن أوباما لا يريد إغراق موسكو في أفغانستان جديدة.
لا يحب بوتين مشهد النعوش العائدة من سوريا، لكن بقاء سوريا بلا حل حقيقي ينذر بمزيد منها، واضح أن خوض الحرب ضد المعارضة و«داعش» أسهل من صناعة السلام في سوريا
ولم يكن باستطاعة الغارات الروسية وحدها قلب موازين القوى على الأرض لمصلحة النظام السوري، كان لا بد لروسيا من اعتبار المليشيات الموالية لإيران شريكاً في المعارك وقصم ظهر المعارضة السورية، وهكذا نشأ المثلث الذي غيّر المعادلة وهو روسيا وإيران وحلفاؤها والنظام، وكان «داعش» هو العنوان المستهدف.
نجح التدخل الروسي في قلب قواعد اللعبة، لم يعد إسقاط النظام السوري وارداً، أكثر من ذلك، صار من المتوقع أن يوسع النظام مناطق سيطرته وأن يستعيد مواقع كثيرة كان انسحب منها، والحقيقة أن المعارضة السورية أصيبت بضربة قاتلة على يد «داعش» و«النصرة» قبل أن تصاب بضربة مماثلة على يد روسيا والمثلث المنخرطة فيه، لا يستطيع العالم احتمال سوريا تعيش في ظل «داعش». المنطقة نفسها لا تستطيع التعايش مع سوريا من هذا النوع، وهكذا فتح الباب أمام الهجوم المضاد الذي مكّن قوات النظام من استعادة المبادرة واقتلاع المعارضة من جيوب ومناطق.
تحركت روسيا في اتجاهين، الأول تمكين النظام من استعادة المبادرة العسكرية ميدانياً، والثاني تفكيك المعارضة والجبهة الإقليمية والدولية المؤيدة لها، في هذا السياق يمكن فهم بعض الأفكار الروسية حول مناطق خفض التصعيد في موازاة السعي إلى استنزاف مسار جنيف عبر مساري سوتشي وآستانة، ولا بد في هذا السياق من الالتفات إلى اختراق كبير حققته موسكو في هذا الاتجاه حين نجحت في تطويع موقف أنقرة وتحويلها شريكاً في عملية آستانة. تقاضت تركيا في المقابل حق تأديب الأكراد السوريين في عفرين وإسقاط الحزام الكردي الذي كان يتشكل على حدودها مع سوريا، كما تقاضت حق الانتشار وتوزيع نقاط عسكرية داخل الأراضي السورية، وأغلب الظن أن تركيا ستستخدم هذا الانتشار لاحقاً ورقة للمساومة حين يُطرح جدياً في أي مفاوضات لاحقة موضوع إخراج القوات الأجنبية من سوريا.
تحالفت روسيا وإيران في المعركة ضد المعارضة و«داعش» وفي محاولة تغيير موازين القوى الميدانية، لكن ذلك لا يعني التطابق. ففي حين كانت روسيا مهتمة بفرض أرجحية عسكرية للنظام في مواجهة خصومه، كانت إيران مهتمة بتعميق وجودها في سوريا وتعميق إقامة سوريا نفسها في «الهلال الإيراني»، وإزالة العقبات التي تعترض انسياباً سلساً للممر البري الذي يربط إيران بشاطئ المتوسط اللبناني بعد عبور العراق وسوريا.
لم يؤدِ وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة إلى قلب اللعبة، وإن كان تسبب أحياناً في إرباكها، لا تملك إدارة ترامب برنامجاً لإفشال الانقلاب الذي تقوده روسيا على الأرض، وإن كانت تمتلك أحياناً وسائل تأخير واعتراض، أميركا ليست منشغلة كثيراً بمن يحكم سوريا،إنها تنظر إلى سوريا عبر التركيز على الوجود الإيراني فيها وهو ما تفعله إسرائيل أيضاً.
على دوي المواجهة مع «داعش» وعدم استعداد الغرب لدفع ثمن تدخل عسكري واسع في سوريا، جنحت دول غربية ومعها دول في المنطقة إلى خيار واقعي تمثل في القبول بـ«سوريا الروسية» إذا كان ذلك يمنع قيام «سوريا إيرانية». وتحركت إسرائيل للحصول من موسكو على ضمانات بعدم اقتراب إيران وحلفائها من الخطوط الإسرائيلية في منطقة الجولان السوري المحتل. أبدى بوتين اهتماماً لافتاً بإبقاء العلاقة قوية مع إسرائيل وتفهم ما تعتبره حاجاتها الأمنية، لكنه لم يستطع توفير الضمانات اللازمة.
أدركت إسرائيل أن ترامب يتجه إلى الخروج من الاتفاق النووي مع إيران، رفعت سقف مطالبها من روسيا وزادت من استهدافها لما تسميه عمليات نقل أسلحة إيرانية إلى «حزب الله» اللبناني، ومع تطور الموقف الأميركي وعودة الرياح الساخنة بين واشنطن وطهران، انتقلت إسرائيل إلى مرحلة استهداف الوجود العسكري الإيراني مباشرة في سوريا وقتل إيرانيين، واستغلت حكومة بنيامين نتنياهو رداً إيرانياً «محدوداً» في منطقة الجولان لتوجه ضربة واسعة إلى البنية العسكرية الإيرانية في سوريا.
نجح بوتين حتى الساعة في منع اندلاع حرب واسعة، لكن هذا النجاح يبقى محفوفاً بالأخطار، لا يريد الطلاق مع إيران في سوريا. وليست المهمة سهلة في حال أراد، ولا يستطيع التطابق مع البرنامج الإيراني واحتمال عواقبه، ومع خروج أميركا من الاتفاق النووي بدا أن اللعبة تزداد تعقيداً.
ربما لهذا السبب شدد بوتين لدى استقباله الرئيس بشار الأسد على ضرورة الحل السياسي في سوريا، وأظهر ضيفه رغبة في مماشاته، لكن الحل السياسي من وجهة النظر السورية والروسية معاً لا ينتمي إلى قماشة بيان جنيف نصاً أو روحاً، ذلك أن التطورات الميدانية ألغت أشياء كثيرة بينها الحديث عن مرحلة انتقالية.
إنها شبكة علاقات معقدة تلك القائمة داخل المثلث الذي يضم موسكو ودمشق وطهران، حاجات متبادلة ولكن من دون تطابق في الرؤى والأهداف، كلما اقترب البحث عن حل ستظهر الخلافات في صورة أوضح، علاقات معقدة في وقت تتزايد فيه حدة الأزمة الأميركية - الإيرانية وتعلن إسرائيل بجلاء أنها تريد «اجتثاث» الوجود العسكري الإيراني في سوريا، حرب صغيرة تدور بالتدريج ويتحول الروسي إلى مجرد شاهد عليها، إن السؤال هو عما بعد انقلاب الموازين في الميدان السوري، ماذا تريد موسكو الآن وماذا تستطيع؟ كيف يفكر النظام المتمسك بالجناحين الروسي والإيراني؟ هل تتعامل إيران مع سوريا مسرحاً لاختبار الإرادة الأميركية؟ أم أن سوريا تحولت فخاً يستنزف الدور الإيراني؟ لا يحب بوتين مشهد النعوش العائدة من سوريا، لكن بقاء سوريا بلا حل حقيقي ينذر بمزيد منها، واضح أن خوض الحرب ضد المعارضة و«داعش» أسهل من صناعة السلام في سوريا.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة