ومازالت كلمة صديق عمري العالم الراحل احمد مستجير ، قال لي في اغسطس 2006 إن زراعة كل متر من الأرض حتى لو بحشائش تأكلها الطيور أفضل من الاستيراد.
هي أيام صعبة تلك التي نعيشها بعد أن قمنا بالتأثير في منهج الأقوياء كي يعرفوا أننا لسنا مجرد قطع بشرية على مائدة الشطرنج العالمي ، بل نؤثر بفاعلية تعطي المثل لشعوب اخرى تملك من الإمكانات فوق ما نملكه؛
لكنها لم تمتلك إرادة كالتي امتلكناها في الثلاثين من يونيو عندما خرجنا نخلع عن حكم بلدنا أدوات بشرية أدمنت الشوق للسيطرة على مقدرات بلدنا لتجعلنا جزءا مزدحما بالسكان يعيد لتركيا إمبراطوريتها التي ادعت التأسلم وواقعها أنها مندوب استغلال جديد يرغب في أن يمتد حكم أردوغان لمعظم البلدان العربية بدعوى التأسلم.
وأيامنا التي عشناها بعد طرد التأسلم لم تكن سهلة بل هي أيام لاتقل آلامها عن آلام الحروب الكبيرة، ولكن طاقة التحمل عند المصريين ترتبط بأحاسيس الكرامة التي توهم البعض أنها ذابت منذ أن نطق أحدهم بأن حرب أكتوبر هي آخر الحروب ، ثم قبل الدخول في دائرة الاستعمار عن بعد ؛ استعمار بالريموت كونترول عندما اعلن أن حرب اكتوبر هي آخر الحروب ، وإستطاع الغرب أن يسرق بعضا من شبابنا ليحاربوا في افغانستان ،وعاد بعضهم وقد تشبع بالتطرف ، وقبل البعض الآخر وطأة الصراع المذهبي فقبل تزييف الصراع فبدلا من ان يكون الخصم هو الاستعمار الذي تخفى؛ وصار الصراع بين سنة اوشيعة ، فتناسينا أن الخصم هو التخلف وعدم الارتقاء بالتحصيل العلمي حتى صار الشرق العربي كقالب من الجبن الهولندي المخرم سهل التمزيق.
صالت وجالت لعبة تزييف الوعي العربي فصرنا نختلف على مستويات الهبوط ؛ سواء اكان الهبوط سياسيا او اقتصاديا، أو السباحة في وحل الاستهلاك دون أن يكون عندنا تقدم زراعي أو صناعي يكفينا ونصدر ما يفيد. وطبعا لن أكرر مانعرفه جميعا منذ تخفيض قيمة الجنيه على يد تاجر القطاع العام عاطف عبيد عندما صار الدولار مساويا لسبعة جنيهات، بعد أن سد منافذ التنمية الذاتية فصرنا نستهلك ولا نزرع ؛ نأكل لحمنا الحي عبر فتارين مزدحمة بإنتاج غيرنا ، وطبعا كان لابد أن يتحول الغضب إلى حركة صاعقة فكانت حركة الناس في الخامس والعشرين من يناير ولندخل متاهة سرطان التأسلم السياسي .
قبلنا في عصر مبارك فكرة تجميع «كعكة الثروة» بتمزيق القطاع العام ، وصار القطاع الخاص يعمل بجهد لترتفع الثروة ولا يرتفع الوطن ، تحولت بعض قممه إلى محترفي استنزاف عسل الثروة؛ ويسلطون لسعات النحل على بقية شركاء الوطن ، ولم يتعلم احدهم شيئا من أسلوب رجال القطاع الخاص في جنوب شرق آسيا؛ الذين يرصدون كل ثرواتهم لرفعة ادنى المستويات الاجتماعية في بلادهم, وقد أحسنت قيادة الجيش من أول المشير عبد الحليم ابو غزالة مرورا بالفريق اول يوسف صبري ابوطالب، ثم المشير طنطاوي فلم يسمحوا للترهل ان يلمس الجيش وأقاموا سياجا من الإنتاج يكفي القوات المسلحة ويفيض ، ولن أنسى قول المشير عبد الحليم ابو غزالة عن إنتاج البيض ، وضرب مثلا بتكلفة إنتاجه بمزارع الجيش ، بتكلفة إنتاجه خارجه . وقس على ذلك خريطة نشر التعليم الصناعي والزراعي في سيناء الشمالية كما وضعها يوسف صبري ابو طالب ايام ان كان محافظا لها ؛ لكن ما بناه تم هدره بالإهمال بعد ان ترك سيناء ليكون محافظا للقاهرة ؛ ولكن ذاكرتي تحمل رؤية طلبة وطالبات الإعدادية وهم يعملون في توحيد اشجار الزيتون او يغزلون ثيابا بدوية مكتوبا عليها ا «صنع في سيناء». ثم لمس ركود مبارك أجواء سيناء الشمالية تلك التي كان اهلها هم خط الدفاع الأول إبان حرب الإستنزاف ثم حرب اكتوبر .
وكان من حق الجيش المصري ان يتطور بجهاز الخدمة الوطنية ليقوم بما يعجز عنه جهاز الحكومة المترهل ،او القطاع العام الذي تحول إلى أرتال بشرية تطلب «المنحة ياريس» ولا تعطي مقابلها إنتاجا لان اختيار كثير من قياداته نالها فساد الرضوخ وامتصاص اكبر قدر من المال . وعندما أقرأ على سبيل المثال لا الحصر عن مزارع سمكية في طريقها لإنتاج كثيف ، فأنا أنزل الى المجمعات الاستهلاكية وأسألهم عن بشاير هذا الإنتاج فلا اجد، فأفكر غاضبا .
لماذا لاننقذ بحيرة ناصر من وحش الترهل وإساءة استغلالها ونعيد تشكيل إدارة الإنتاج بها لنجد السمك كما كنا نجده من قبل. وعندما اسأل عن دواء ما أعلم انه موجود عند الصيدلي، لكنه يحبسه عن الجمهور انتظارا لرفع السعر ، فأتساءل عن شركة الجمهورية التي كانت تستورد حاجات المرضى وأجهزة المستشفيات ولوازم تحضير الأدوية ، فلا أسمع لهذه الشركة صوتا وهي التي كانت تستورد بما يسمى «الجنيه الحسابي» عدسات النظارات الطبية عام 1962 بسعر زوج العدسات بقرابة الخمسين قرشا ونفس زوج العدسات في أيامنا هذه ويصل سعره من خمسمائة جنيه ليصل في العدسات الألمانية الصناعة إلى ما يزيد على عشرة آلاف جنيه .
وعندما أقرأ عن توقف بعض شركات صناعة الدواء عن الإنتاج لأن الاستيراد أرخص وأعلى كسبا ؛ هنا أقرأ الفاتحة على روح صديقي الذي أحببته كثيرا لمعرفته بأن القطاع الخاص يحتاج إلى تربية سياسية تلقنه درسا بسيطا ألا وهو إنتاج دواء لشعب يزيد على الثمانين مليونا سيحقق ربحا يضمن استمرار الكسب، وأعني به السياسي البارع صاحب الكرامة والفهم منصور حسن الذي كتب لجمال عبد الناصر طلبا بتأميم شركات الدواء وتعجب والده من تلك الرسالة التي تلاها تأميم شركات صناعة الدواء جميعها ، وكان تعجب والد منصور حسن بسبب انه صاحب واحدة من كبريات صناعة الدواء ، وكان منطق منصور حسن بأن الدواء حق طبيعي يجب أن يصل إلى من يحتاجه دون هامش ربح .
ومازلت أحلم بعيون مفتوحة فأرى أي ارض يتم استردادها: طريق مصر الإسكندرية أو أي مساحة نستصلحها، بما فيها المليون ونصف المليون الجاري استصلاحهما ، أراها مزروعة بالقمح والفول والذرة وكل ما نحتاجه بدلا من نظرية الاستيراد لطعامنا من الخارج ، فباب استيراد ما نحتاجه لتغذية تسعين مليونا يمكن استبداله بما يمكن أن ننتجه .
ومازالت كلمة صديق عمري العالم الراحل احمد مستجير ، قال لي في اغسطس 2006 إن زراعة كل متر من الأرض حتى لو بحشائش تأكلها الطيور أفضل من الاستيراد.
باحتصار : لي حلم أراه بعيون مفتوحة هو أن يتسع عمل جهاز الخدمة الوطنية لينتج ما نحتاجه من طعام إلى أن يستيقظ القطاع العام من علل أصابته منذ عهد عاطف عبيد إلى أيامنا حيث أدمنت كثير من قياداته الربح الشخصي، ولو على حساب لحم الوطن نفسه . أحلم بعيون مفتوحة فأرى دراسة خريطة التجارة الداخلية، وهي واضحة أمام هذا الجهاز. فالأمن لا يتحقق بالبندقية وحدها ، ولكنه يتحقق بالبندقية وسنبلة القمح . فدروس التجربة الحياتية تؤكد أننا ندفع ثمن الاعتماد على الاستيراد، وهو ثمن صعب لأن قدراتنا على التصدير مازالت تحبو. وقبح الله ذكرى كل من ساهم في تفريغ هذا الوطن من عمق الإحساس بالمسئولية الاجتماعية.
*نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة