التعليم الديني في العالم الإسلامي يسعى إلى التخطيط للمستقبل والاستعداد له، وهي مهمة تبلغ من الصعوبة حدود المستحيل
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتعليم الديني في العالم الإسلامي أصبح ثاني ثنائية مفروضة على المجتمع من قبل الإدارات التي فرضتها القوى الأوروبية المستعمرة، التي انحصر همها وطموحها وغاية غاياتها تحقيق اللحاق بالركب الحضاري الأوروبي؛ دون إدراك حقيقي، وعميق لفلسفة الحضارة أو لكيفية تحقيق النهوض.
فقد رأت تلك الدولة المهزومة أمام القوة السياسية والعسكرية الأوروبية، والتي تم إلحاقها بالدول الأوروبية من خلال إغراقها بالديون وإخضاعها لعملية تقليد حضاري أفقرت الاقتصاد وأفلست الثقافة، رأت هذه الدولة أن الطريق الأسرع لتحقيق الحداثة، هو نقل نظم التعليم الأوروبية ومناهجها؛ دون الالتفات إلى تطوير النظم القائمة، أو إصلاحها أو تحقيق عملية نمو ذاتي لها؛ تستجيب لمتغيرات الواقع، وتتجاوز نواقص التجربة التاريخية وتصحح أخطاء التقليد والجمود، وتقوم بعملية تجديد حضاري شامل للمجتمع، تمكنه من تحقيق الاستئناف الحضاري المؤسس على قواعد من التقاليد، والقيم التي تعبر عن الهوية، وتحقق تجدد الذات، وتستفيد من الآخر غاية الاستفادة؛ دون انغلاق أو تقوقع، ودون خلق حالة من الصدام بين الذات والآخر، ودون اللجوء الى المحافظة على نظامين تعليميين: أحدهما ديني تقليدي، والآخر حديث عصري.
وكان من نتيجة عملية التنمية المستوردة هذه أن حدث شرخ في النظام التعليمي، فأصبح هناك نظامان متجاوران، متعايشان، ولكنهما في الوقت نفسه متناقضان في فلسفتهما ومقاصدهما وأساليبهما وقيمهما وأخلاقياتهما، فانقلبا عدوين متصارعين، متشاكسين، ينفي كل منهما الآخر، ويسعى إلى زواله، أحدهما يرى والآخر ظلاميا ورجعيا و متخلفا، والآخر يراه استعماريا، وغريبا، ومعارضا للأخلاق، سائقا الأمة إلى انهيارها وفقدان هويتها.
وكان من نتيجة تلك الحالة أن أصبح النظام التعليمي المستورد هو مصدر تكوين النخبة الثقافية والسياسية، وبدأ النظام التعليمي التقليدي يتراجع وينزوي ويزداد تمسكا بالقديم الذي رأى فيه حفاظا على الهوية والذات، ومقاومة للذوبان والزوال، وفي سبيل تحقيق ذلك تحنط التعليم الديني، وتجمد، وظل يعيد نفس الموضوعات بنفس المنهجية لأكثر من قرن ونصف من الزمان، وصارت مقاومة التغيير عقيدة في ذاتها؛ خوفاً من الذوبان في التعليم الحديث، وفقدان الهوية، وتضييع الدين، وهذه الطبيعة المحافظة ترسخت في التعليم الديني وأهله حتى صارت هوية له، وأصبح من العسير تغييرها.
في هذه الوضعية المرتبكة أشد ما يكون الارتباك، يسعى التعليم الديني في العالم الإسلامي إلى التخطيط للمستقبل والاستعداد له، وهي مهمة تبلغ من الصعوبة حدود المستحيل لأنه سيكون السؤال المحوري: أي تعليم؟ وأي مستقبل؟
في كتابه "أليس الصبح بقريب" يقول العلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور المتوفى 1973: "إذا فحصنا أسباب تأخر التعليم وجدناها نوعين: نوع يرجع إلى الأسباب العامة التي قضت بتأخر المسلمين على اختلاف أقاليمهم، وعوائدهم ولغاتهم، ونوع يرجع إلى تغير نظام الحياة الاجتماعية في أنحاء العالم تغيراً استدعى تبدل الأفكار والأغراض والقيم العقلية، وهذا التغيير قد استدعى تغير أساليب التعليم، ومقادير العلوم المطلوبة، وقيمة كفاءة المتعلمين لحاجات زمانهم، كل ذلك نشأ نشئا سريعا، وسار سيرا فسيحا، والمسلمون- خاصة أهل العلوم الإسلامية- في سبات عميق حال دونهم ودون إصلاح برامج تعاليمهم".
قد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن التعليم الديني الإسلامي لم يواجه في تاريخه من التحديات والمخاطر ما قد واجهه في السنوات القليلة الماضية، فلم يحدث على مر التاريخ الإسلامي أن وضع التعليم الديني موضع الاتهام من قبل قوى سياسية محلية، ودولية مثلما حدث في هذه الفترة؛ التي انتشرت فيها جماعات وتنظيمات إرهابية متوحشة، تبرر جرائمها البشعة بمبررات دينية، وتنسبها إلى مبادئ شرعية، ما دفع جهات عديدة من مختلف مناطق العالم للهجوم على التعليم الديني، واعتباره العدو الأول للحضارة العالمية، وإن تغييره أو استبداله يعد الوسيلة الأولى لتأمين مستقبل البشرية، حتى إن لفظ "المدرسة" الذي يعد في ذاته لفظا محايداً يحمل قيمة إيجابية مطلقة تعبر عن العلم والمعرفة والتنوير والحضارة قد صار يستخدم في اللغات غير العربية للتعبير عن معامل تفريخ الإرهابيين، أو للإشارة إلى مؤسسات لنشر التخلف والجهل والانغلاق.
وفي ظل هذه اللحظة التاريخية الفارقة أصبح التعليم الديني مطالبا بأن يواجه مشكلاته الهيكلية المتوارثة من عصور التخلف والانحطاط الحضاري والكسل العقلي، وفي الوقت نفسه يدافع عن وجوده وشرعيته، وينفي التهم الموجهة إليه، ويحاول أن يبرئ ذمته منها، وكذلك يطور نفسه، ويصلح أوضاعه حتى يقوم بدوره الحضاري، وهو نقل العلم من جيل إلى جيل، وإعداد أجيال قادمة قادرة على مواجهة تحديات عصرها وزمانها ومكانها بقيم دينها وشرائعه ومقاصده وغاياته.
في هذه الوضعية المرتبكة أشد ما يكون الارتباك، يسعى التعليم الديني في العالم الإسلامي إلى التخطيط للمستقبل والاستعداد له، وهي مهمة تبلغ من الصعوبة حدود المستحيل لأنه سيكون السؤال المحوري: أي تعليم؟ وأي مستقبل؟
هل هو تعليم ديني إسلامي ينطلق من القرآن والسنة والتراث الإسلامي لتكوين متخصص في الشأن الديني، يحقق الحاجات الروحية للمجتمع؟ أم تعليم يعيد إنتاج كل ما عرفه تاريخ المجتمعات البشرية في حوض الحضارة الإسلامية بدون هدف أو غاية؟ سؤال سيعيد تعريف مؤسسات التعليم الديني ومحتواها، وقد يقود إلى تفكيك جامعات، وإعادة تركيبها لتكون جامعات حضارية تدرس العلوم الدينية بمنهجية متسقة مع معطيات العقل البشري التي وصلت إليها العلوم الإنسانية والاجتماعية...إنه التحدي الكبير الذي يواجه المؤسسات الدينية الكبرى، والتي لم تنهض لمواجهته حتى اليوم؛ لانشغالها بما هو أدنى من ذلك بكثير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة