مما لا شك فيه أن الطفرة العمرانية أدخلت أساليب معمارية حاملة إلينا تجارب ثقافية متنوعة
ابتكار الحياة يعني البحث عن أساليب جديدة للديمومة.
سألني صديق: ما هو سر التجارب المعمارية المتنوعة في دبي؟
قلت: "قبل كل شيء، دبي أمل المعماريين، لأنها تتيح لهم فسحة التجريب وارتياد العوالم الجديدة. ولذلك نرى الأشكال المعمارية المتنوعة تتجاور إلى البعض الآخر بحيث تشكّل فسيفساء واسعة تضم معظم التيارات والرؤى المعمارية في العالم، وهذه تجربة فريدة في حد ذاتها، تعكس فلسفة تصميمات الحياة الحضرية المعاصرة في التقاء التبادل الثقافي والاتجاهات الاقتصادية العالمية وتكنولوجيا الاتصالات في نهج معماري ابتكاري". ولعلنا نستشهد بإنجاز برج خليفة دليلاً على ذلك، مجسدًا نمط العمارة الضخمة ذات السمات الفنية عالية المستوى، أشكال تشبه الأهرام "مثل فندق رافال"، أشكال تشبه قوس النصر الباريسي "مثل مركز دبي المالي العالمي"، أشكال أبنية تشبه "برج إيفيل"، أشكال تشبه بناء "مانهاتن". وكذلك مثال برج العرب، أحد أهم صروح مدينة دبي وشاهداً من على النهضة المعمارية والعمرانية، وتحوّل إلى أيقونة دبي الحديثة لتضاهي كبريات المدن العالمية.
احتل موضوع الحفاظ على التراث العمراني أهمية كبيرة في فكر قادة دبي، إذ تعدها مسؤولية تاريخية إنسانية إزاء الغد، بحيث أصبح التراث العمراني يعكس الهوية الحضارية للإنسان الإماراتي، ماضيه وحاضره ومستقبله.
لكن كثيرين يتخوفون من هذه التجارب المعمارية، رغم أنها تتلاءم مع مفهوم المدينة العصرية الحديثة المنسجمة مع حياة الإنسان العربي. ويعتقد البعض الآخر أن غياب مفاهيم التخطيط العمراني المسبقة له مخاطره، وهذا مجرد افتراض نعمل به.
مما لا شك فيه، أن الطفرة العمرانية أدخلت أساليب معمارية، حاملة إلينا تجارب ثقافية متنوعة في ظل المعادلة التي تقول: "المدينة تنتج البشر، والبشر ينتجون المدينة".
من الواضح، أن الإمارات عامة ودبي خاصة، تمتلك تراثاً معمارياً أصيلاً، زاخراً بالمفردات التراثية، يلائم الحياة اليومية التي عاشتها الأجيال الماضية، والتي استوحيت من واقع حياة الإماراتيين مثل نموذج "البراجيل" كقيمة فنية وثقافية وجمالية، لها وظيفة عملية وهي تبريد الهواء في الجو الساخن للإمارات. وكذلك الزخارف الجصية ذات الأشكال الجمالية التي لا تزال تُستخدم في الأبنية الحديثة كعنصر جمالي، مثل الأبواب والجدران والنوافذ، وما تحمله من عناصر جمالية متألقة، واستخداماتها في بناء المدن الحديثة في دبي، مثل مدينة جميرا، حيث نجح المعماريون في استخدام العنصر القديم في الأبنية الحديثة. ولا أحد ينكر المفردات الجمالية في هذا البناء: البراجيل، العقود ــ تُصب من الجبس، المدخل، الحوش، الدراوي، والحمائم، المدخلات الخشبية، والزخارف الجبسية وغيرها. كما هو الحال في العديد من البلدان المتقدمة التي تستخدم الواجهات التراثية القديمة في الأبنية الحديثة، من خلال المحافظة عليها والبناء الحديث بمحاذاتها أو وراءها. والأماكن التي تُصنف على أنها أماكن تاريخية من قبل البلدية لا يمكن تغييرها بأي شكل من الأشكال، تحفظها قوانين وتشريعات تحافظ على القديم، وتبرز أشكاله المعمارية في الأبنية الحديثة.
ويتجلى ذلك فيما أقدمت عليه دبي من الانفتاح على أفق المعمار الحديث. إذاً يبدو ألا حل أمام المدن الحديثة سوى ضم المعمار القديم في البناء الحالي، لذلك حرصت دبي على المحافظة على جميع المباني التاريخية ورممتها كما هو الحال في أنحاء العالم، بل وأعادت تأهيلها وتصميمها لتكون ذات نفع عام كما الحال في البستكية والشندغة والسوق القديم، وبذلك تمكنت من المحافظة على المعمار التراثي. وقد تمرست إدارة التراث العمراني في ترميم وصيانة البنايات التاريخية من خلال ورشات الصيانة التي تشّغلها، بحيث منعت بيع البنايات التاريخية التي يمتلكها أصحابها وعدم السماح بالتصرف بها. ولعلنا نتفق مع ما يذهب إليه الدكتور عبدالله العريان، من كلية الهندسة جامعة الإمارات العربية المتحدة، بصدد نجاح التجارب العالمية وإخفاق بعضها، بقوله: "لقد عانت الحضارة العربية الإسلامية طويلاً من تقسيم تاريخها إلى فترات أو حقبات تاريخية بلا ترابط، ما أدى إلى حدوث طفرات لم تستطع المجتمعات إدراكها، ما أدى بالتالي إلى تناقض في الواقع العمراني التراثي. وإن تأكيد المحددات والعناصر التراثية بما يتلاءم واحتياجات المجتمع الحالية هو الطريق للحفاظ على التراث العمراني".
وهكذا تأثرت العمارة في منطقة الخليج والإمارات بالطفرة الاقتصادية الهائلة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وأدت إلى الاستعانة بالمعماريين الأجانب لندرة المهندسين المواطنين، ما أدى إلى تزاوج العمارتين المحلية والأجنبية بشكل ناجح. وأخرجت لنا أعمالهم الهندسية خليطاً من التصميمات والنماذج الجديدة التي تلائم حياة الإنسان المعاصر، خاصة في عصر العولمة التي أشاعت القيم والمعايير ذاتها بحيث لم تعد المدن التقليدية تستجيب لحاجات الإنسان المعاصر. وهذا لا يعني إهمال البيئة المحلية وانسجامها الاجتماعي والروحي، وقد انتبه المسؤولون إلى أهمية الأبنية التاريخية مثل: حصن الفهيدي، المدرسة الأحمدية، بيت التراث، بيت الوكيل، مجلس الغرفة في منطقة الجميرا، وبرج نهار، ومربعة الشندغة، البراحة، الوعيل، قرية حتا التاريخية وغيرها، مما أعاد لها قيمتها الفنية والجمالية والتاريخية.
يذهب البعض إلى أن ما يفتقده المعمار الحديث هو الحميمية، حيث الحوش والباحة والألعاب والشمس والحركة والجيران، وهذا ما لا يتوفر في الأبراج الشاهقة الحديثة، ولكنها توفر عناصر أخرى يحتاجها الإنسان المعاصر. وهذا الأمر لا يخص الإمارات ودبي فقط بل يجتاح العالم بكامله؛ لأن مفردتي الأسمنت والسيارة غيرتا من وجه البيت والمدينة على حد سواء. فالأسمنت أقام الجدران والسقوف والطوابق، والسيارة فتحت الشوارع واسعة وغيرت التخطيط العمراني للمدن برمتها.
والسؤال الذي يطرحه المعماريون هو: "هل يمكن توظيف القديم في المعمار الحديث؟".
العمارة في مدينة دبي هي تاريخها وثقافتها وشخصيتها بين تلك الأصول، فهي وإن كانت خليطاً من حضارات متنوعة، لكنها ذات خصائص عربية إسلامية واضحة، ولها سمات وظيفية اقتصادية، حيث مثلت مواد البناء والإنشاء دوراً كبيراً في التأثير على التفكير والتشكيل المعماري والتجارة مع أفريقيا والهند ــ استيراد أخشاب الشندل ــ وسومطرة ــ حيث استيراد الأحجار المرجانية.
لقد حاز الحفاظ على التراث العمراني وما يحوي من مبانٍ ومناطق تاريخية اهتمام عديد من دول العالم منذ الستينيات من القرن الماضي إلى الوقت الحالي، وبدأ عديد منها تطوير النظم والتشريعات ليتحول الحفاظ من مجرد اهتمام إلى تأثيرات عملية في الأبعاد العمرانية والتخطيطية، كما هو الحال في التجارب الأمريكية والإنجليزية والفرنسية وغيرها من البلدان من دمج المعمار القديم مع الحديث في معادلة خطط التنمية. وهذا ما تحقق بنجاح كبير في التجربة الإماراتية الرائدة. واحتل موضوع الحفاظ على التراث العمراني أهمية كبيرة في فكر قادة دبي، إذ تعتبرها مسؤولية تاريخية إنسانية إزاء الغد، بحيث أصبح التراث العمراني يعكس الهوية الحضارية للإنسان الإماراتي، ماضيه وحاضره ومستقبله. ومع استمرار الغزو الثقافي الغربي، أصبح الحفاظ على كنوز الماضي المادية والروحية هدفاً أساسياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة