ابن عربي شخصية "أبوظبي للكتاب".. معارج الروح تواجه التطرف
الشيخ محي الدين بن عربي هو شخصية معرض الكتاب في العاصمة الإماراتية في دورته السابعة والعشرين لعام 2017.
يأتي الشيخ الأكبر، محيي الدين بن علي الطائي الحاتمي المرسي، إلى أبوظبي في زيارة غير عابرة. زيارة صاحب الصيت الذائع باسم ابن عربي، (ولد في مرسية بالأندلس عام 558 هـ الموافق 1164 م وتوفي في دمشق عام 638 هـ 1240 م)، إلى معرض الكتاب في العاصمة الإماراتية في دورته السابعة والعشرين كشخصية العام الثقافية، ليست زيارة “تاريخية” على الرغم من حمولات السجال الفكري والدعوي التي كانت سائدة خلال القرن الحادي عشر في ديار المسلمين، بين عواصم الخلافة في المشرق وأطرافها الناهضة والممتدة حتى الأندلس. زيارة ابن عربي هي زيارة “معاصرة” بالمعنى الحرفي للكلمة. فحرب الأفكار التي تدور رحاها بين عرب ومسلمين اليوم، تستحضر من الماضي أسوأه وتكاد تهيل التراب على الجوانب المشرقة منه.
كانت السياسة في عصر ابن عربي قد أصبحت مطية مصالح ومطامح ومطامع. وانتشرت يومها في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية المتمددة دعوات ودعاة فصّلوا الدين على مقاسات ولاتهم. فظهرت فتاوى تسوّغ الفتنة مرة، وتبرّر المتعة مرات، وتطهّر المرتكب مما جنت يداه على الدوام. وقد أدى ذلك إلى ظهور فرق تجد في النكوص عن العصر تشبث بوعود الآخرة ومنجاة من هلاك الدنيا. وبين هؤلاء وأولئك، وقدت الشرارة الأولى للحرب التي ستدور لاحقا بين المقدس والمدنس، وستكتب الفصول الأولى في صراع التفلّت والتزمّت، صراع أنتج في الفكر والممارسة بين المسلمين مدارس وتيارات التفكير والتكفير. ومع تداول العصور سيحمل هذا الصراع السجالي السلاح، فيحول معه البلاد والعباد إلى مستنقعات للدماء ومواقد نار مستعرة.
في ظل هذا المناخ المتداعي فكريا وواقعيا، سيصبح التيار الصوفي الذي يتصدر فيه الشيخ الأكبر ابن عربي المكانة الأبرز، رد فعل سياسي بقدر ما هو اختيار فكري وسلوكي.
صحيح أن الصوفية لم تكن دعوة حديثة بمقياس الزمن الأندلسي، إذ إنها أصلا سابقة على الإسلام نفسه. فكل الأديان السابقة، والدعوات الروحية الوضعية، شهدت اتجاهات صوفية يمكن اجمالها تحت عنوان “الحلول والإرتقاء”، لكن التصوف الإسلامي كان أكثرها “وعيا” بالواقع من ناحية وانسلاخا عنه من ناحية ثانية. هذان الوعي والانسلاخ هما بهذا المعنى منهج نقدي للواقع، بتمثلاته السياسية والمادية.
قبل عصر ابن عربي الأندلسي، كتب ثلة من علماء الإسلام في التصوف ودعوا إليه، ومنهم: الحارث المحاسبي المتوفي سنة 243 هـ، وأبوسعيد الخراز المتوفي سنة 277 هـ، والطوسي المتوفي سنة 378 هـ، وأبو بكر الكلاباذي المتوفي سنة 380 هـ، وأبو طالب المكي المتوفي سنة 376 هـ، وأبو قاسم القشيري المتوفي سنة 465 هـ، وأبو حامد الغزالي المتوفي سنة 505 هـ. وبعده ستشهد العصور الإسلامية حشودا من المتصوفة ممن تركوا أثرا ًماثلاً في هذه الدعوة أو ممن عبروا خلالها خفافا سراعا. وستبقى أسماء المؤثرين منهم مشاعل يهتدي بها المتشوقون إلى هذا العالم الرحب، كمثل الشيخ عبد القادر الجيلاني، وجلال الدين الرومي وشمس التبريزي، وطبعا طيبة الذكر رابعة العدوية.
ابن عربي بين هؤلاء هو نسيج وحده. فقد دخل في معارج الروح من باب هيامه بـ”النظام”. و”النظام” هذه هي ابنة شيخه، شيخ الحرم المكي: زاهر بن رستم الكيلاني، عندما حلّ بمكة في الرحلة التي قادته من مدن الأندلس: مرسية، إشبيلية، لشبونة، قرطبة، مرورا بالمغرب حيث التقى في بجاية بشيخه أبي مدين الغوث، ثم انتقل إلى مصر، ومنها إلى الحجاز طلبا للحج فاستقر حينا بمكة، قبل أن تقوده قدماه إلى الشام. من هذا الباب الدنيوي: باب عشق النظام الفتاة الجميلة، سيعرف ابن عربي العشق الأنقى الأعلى اللانهائي، وسيرد على منتقديه في كتابه “ذخائر الأخلاق” بأن “النظام” كانت نافذته النافذة إلى التجلي. أما في كتابه “ترجمان الأشواق” فستظهر في أشعار ابن عربي تجليات الروح العاشقة.
لكن تصوف ابن عربي لن يكتمل إلا في كتابه الأهم “الفتوحات المكية”، الواقع في 37 سفرا ومئات الأبواب. على إن الأشهر من نصوصه تلك التي أدرجها فيما يشبه الدستور للمتشوقين في رحلة الحب الإلهي والنافرين من لوثة الدنيا في رسالته بعنوان “ما لا يعوّل عليه”. ومنها هذه الإشارات الدالة، لمن يريد أن يمنحها ترجمة عصرية:
ـ المُخالفَةُ إذا لم تكن عن مُقابلةٍ لا يعَول عليها
ـ الخوفُ إذا لم يكن سببه الذات لا يعَول عليه
ـ الصمت العام لا يعَول عليه
ـ الحكمة إذا لم تكن حاكمة لا يعَول عليها
ـ الولاية التي تقبل العزل لا يعَول عليها
ـ كل باطنٍ لا يُشهِدك ظاهره لا تعَول عليه
ـ المكان إذا لم يُؤًنُث لا يعَول عليه
ـ العطاء بعد السؤال لا يعَول عليه
ـ الجوع لا يعَول عليه جُملةً واحدةً
واجه المتصوفة في التاريخ العربي عنت القوى والأفكار الحاكمة. وكانت اتهامات الخروج أو المروق أو التكفير تترصدهم في كل زمان ومكان. وربما يكون ابن عربي وحده بين المتصوفة، الذي نال حكما مخففا من شيخ السلفية ابن تيمية، فتركه في منطقة مشتبهة بين الإيمان والكفر، حيث قال فيه: “ابن عربي صاحب فصوص الحكم وهي مع كونها كفرا فهو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيراً، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى والله أعلم بما مات عليه”.
إذن، لماذا يأتي ابن عربي إلى أبوظبي اليوم؟ لماذا يستعيده معرض الكتاب فيها كشخصية العام الثقافية؟
بكل بساطة، لأن ابن عربي -وأمثاله- يمثل حاجة إسلامية معاصرة تحاكم بنقائها قطبي الرحى في حرب الإفناء المتبادلة في عالم الإسلام: الإلحاد والتكفير. يكفي أن التصوف كان طريقا لهداية نفر غير قليل من غير المسلمين، بشهادة الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي الذي خاض تجربة التحول من الماركسية إلى الإسلام عن طريق ابن عربي.
إن التصوف، خلافا للانطباع السائد، ليس دروشة وتذللا وأسمالا يتقرب بها المريد إلى من يريد. التصوف هو تجربة روحية هائلة تعاكس التطرف الذي أصبح اليوم عبارة عن تجربة دموية مهولة.
فعلى الدوام نأت حركة التصوف، كجماعة إسلامية بنفسها عن موجة الإسلام السياسي، وهي اختارت الطريق السلمي لتحقيق دعوتها بعيدا عن منهج الحركات السرية. وكان للحركة الصوفية الفضل في تطوير الفلسفة الإسلامية، ثم إن الأزهر الشريف كان وعبر كل العصور حاضنا لمدارس التصوف. وبهذا التكوين الفكري والتاريخي فإن التصوف كان، وهو الآن أكثر من أي وقت مضى، الحاضن الطبيعي لمبطلات التطرف.. وربما يكون المؤهل لمواجهته.
بهذا المعنى يأتي حضور ابن عربي لمعرض أبوظبي للكتاب هذا العام. وبكلمات شيخنا الأكبر نقول له: نتشوق إلى لقياك “وكل شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه”.