التطورات الثلاثة السالف الإشارة إليها تشير إلى أن الاقتصاد العالمي قد يشهد في العام الجديد 2020 حالة من الاستقرار
مثّل شهر ديسمبر الجاري شهرا فاصلا في التحديد الجزئي لطبيعة المناخ الذي قد يسود الاقتصاد العالمي خلال العام المقبل؛ إذ شهد هذا الشهر ثلاثة تطورات كبرى ربما تجعل من عام 2020 عاما أقل ضبابية وأكثر استعدادا لتحقيق نتائج اقتصادية جيدة أفضل، مقارنة بما كان مستقرا كتوقعات حتى شهر نوفمبر الماضي، وتشمل هذه التطورات التوصل لاتفاق بين الولايات المتحدة والصين في مجال نزاعهما التجاري، ونتائج الانتخابات البريطانية، ثم أخيرا اجتماع الأوبك+.
التطورات الثلاثة السالف الإشارة إليها تشير إلى أن الاقتصاد العالمي قد يشهد في العام الجديد 2020 حالة من الاستقرار، أو فلنقل إنه سيكون عاما أقل ضبابية مقارنة بعامي 2019 و2018، وهو ما قد يفسح المجال أمام تحقيق معدلات نمو اقتصادي أعلى في العديد من دول العالم
تقريبا بعد نحو 18 شهرا من فرض رسوم جمركية متبادلة على التجارة بين الولايات المتحدة والصين توصل الطرفان إلى ما يسمى باتفاق "المرحلة 1" لتهدئة النزاع التجاري بينهما، وبناء على الاتفاق فقد أقدمت الإدارة الأمريكية على إلغاء فرض المزيد من الرسوم الجمركية على سلع صينية تبلغ قيمتها نحو 160 مليار دولار كان من المفترض وضعها موضع التطبيق يوم 15 ديسمبر، كما تم تخفيض الرسوم الجمركية من 15% إلى 7.5% على سلع صينية أخرى تصل قيمتها إلى 120 مليار دولار، أما بالنسبة للصين فقد علقت ما كانت ستطبقه من إجراءات عقابية في منتصف ديسمبر على وارداتها من السلع الأمريكية في مواجهة رفع الرسوم الجمركية على صادراتها لأمريكا، كما تعهدت باستيراد ما تتراوح قيمته بين 40 مليار إلى 50 مليار دولار من السلع الزراعية الأمريكية في السنة خلال السنتين المقبلتين، بينما ظلت الرسوم الجمركية الأمريكية مفروضة كما هي على واردات من السلع الصينية تبلغ قيمتها 250 مليار دولار، مع ربط التحرك تدريجيا لخفض الرسوم وفقا لمدى التقدم المحرز في المفاوضات التجارية بين الطرفين في المستقبل.
لكن هذا الاتفاق كما تقول الاقتصادية الأمريكية آن كروجر يأخذ في الاعتبار فقط بعض الشكاوى الأمريكية من الممارسات الصينية، وترى أن التوصل لاتفاق حول المسائل الأخرى التي تطالب بها الولايات المتحدة سوف يكون أمرا أكثر صعوبة، وبشكل عام تريد الولايات المتحدة من الصين أخذ خطوات لإزالة الفائض التجاري الذي تحققه معها، والتوقف عن التلاعب بالعملة لتحقيق مزايا تنافسية تجارية، والتوقف عن سرقة حقوق الملكية الفكرية، والابتعاد عن الممارسات الأخرى خاصة الممارسات التي تقسر بواسطتها الصين الشركات الأمريكية على نقل التكنولوجيا لشركائها الصينيين حين ترغب هذه الشركات في العمل في السوق الصينية، والتوقف عن تقديم المعونات للشركات الصينية التي تمتلكها الدولة، والتوقف عن الاستيلاء على الشركات الأمريكية عبر شراء هذه الشركات باستثمارات تتم برعاية الدولة.
ويرى بعض الاقتصاديين أن هذا الاتفاق التجاري حال دون فرض جولة جديدة من الرسوم الجمركية، كان بوسعها أن تؤدي لدخول الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي في حالة ركود، وتؤدي ربما أيضا إلى انهيارات في أسواق المال العالمية، ويرى الاقتصادي الأمريكي نوريل روبيني أن الاتفاق يمثل في الحقيقة مجرد هدنة مؤقتة أخرى وسط تنافس وصراع استراتيجي بين الطرفين يشمل التجارة والتكنولوجيا والاستثمار والعملة وقضايا جيوسياسية، مع الوضع في الاعتبار أنه ما زالت هناك رسوم جمركية مرتفعة ظلت مفروضة على العديد من السلع، وربما يعود البلدان لتصعيد الخلاف بينهما فيما لو لم يلتزم أحدهما بتعهداته التي يشملها هذا الاتفاق.
والنتيجة كما يقول نوريل روبيني هي أن فك الارتباط الأمريكي-الصيني من المحتمل أن يزداد عمقا عبر الزمن، وهو أمر أكثر تأكيدا في مجال التكنولوجيا، فالولايات المتحدة تعتبر سعي الصين لإنجاز استقلالها ثم ريادتها في قطاعات تكنولوجية رئيسية -تهديدا لأمنها الاقتصادي وأمنها القومي. وبعد العقوبات التي فرضتها على شركة هواوي الصينية الرائدة في مجال 5G وغيرها من الشركات فسوف تستمر الولايات المتحدة في محاولة احتواء النمو الصيني في المجال التكنولوجي.
الخلاصة إذا.. إننا حقيقة إزاء هدنة تجارية بين الطرفين، لكن على الأقل سيشهد الاقتصاد العالمي بعض الهدوء ولو لبعض الوقت، بعد أن عانى هذا الاقتصاد من حالة من عدم اليقين وما تبعها من تقلبات واسعة بناء على ما شهدته جبهة النزاع التجاري من تقلبات واضحة، ويكفي أن التهديد بدخول الاقتصاد العالمي في حالة ركود نتيجة هذا النزاع التجاري أصبح أمرا مستبعدا خلال العام المقبل على الأقل.
التطور الثاني المهم يتعلق بنتائج الانتخابات التي جرت في بريطانيا يوم 12 ديسمبر الماضي، والتي وفرت أغلبية مريحة لحزب المحافظين البريطاني؛ حيث يمكن للبلاد المضي قدما في خطة انفصالها عن الاتحاد الأوروبي في نهاية شهر يناير المقبل، بعد أن عانت طوال ثلاثة أعوام تقريبا من عدم استقرار شديد، وما ترتب عليه من مصاعب وتقلبات اقتصادية في بريطانيا وأوروبا على السواء. والخروج النهائي البريطاني من الاتحاد الأوروبي سيعقب المفاوضات للتوصل لاتفاقيات جديدة تحدد طبيعة العلاقات المستقبلية بين الطرفين بعد الانفصال، ويطمح رئيس الوزراء بوريس جونسون أن تنتهي بنهاية العام المقبل، هذا التطور أيضا ربما يكون باعثا على بعض الاستقرار خلال العام المقبل في قضية أرقت أوروبا والمملكة المتحدة لفترة طويلة من الوقت.
التطور الثالث المهم هو توصل أطراف أوبك+ أثناء اجتماعهم يوم السادس من ديسمبر إلى اتفاق جديد، يتم بموجبه تعميق خطة خفض الإنتاج بإضافة خفض جديد قدره 500 ألف برميل يوميا؛ حيث تصل جملة الخفض إلى 1.7 مليون برميل يوميا، علاوة على تعهد المملكة السعودية بخفض إنتاجها بمقدار 400 ألف برميل يوميا فوق الحصة المحددة لها؛ حيث تبلغ جملة الخفض 2.1 مليون برميل يوميا، وقد أتى تعميق خفض الإنتاج نتيجة للتوقع السائد بأن الدول خارج أوبك+، خاصة الولايات المتحدة والبرازيل والنرويج وجيانا، سوف تزيد إنتاجها خلال العام المقبل بنحو 2.1 مليون برميل يوميا، إضافة إلى ذلك كانت هناك أيضا توقعات كبيرة بانخفاض معدل نمو الطلب على النفط خلال العام المقبل نتيجة الحرب التجارية الأمريكية الصينية وانعكاساتها السلبية على معدل النمو الاقتصادي. والتوقع السائد الآن خاصة بعد التوصل للاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والصين هو أن العام المقبل ربما يشهد حالة من الاستقرار في أسواق النفط العالمية، ويكاد يكون هناك شبه اتفاق على أن سعر برميل النفط من نوع خام برنت سيتقلب في مدى ضيق يتراوح بين 65 إلى 70 دولارا.
التطورات الثلاثة السالف الإشارة إليها تشير إلى أن الاقتصاد العالمي قد يشهد في العام الجديد 2020 حالة من الاستقرار، أو فلنقل إنه سيكون عاما أقل ضبابية مقارنة بعامي 2019 و2018، وهو ما قد يفسح المجال أمام تحقيق معدلات نمو اقتصادي أعلى في العديد من دول العالم. تلقي هذه التطورات التي شهدها الشهر الأخير من العام الجاري إذا بحالة من التفاؤل النسبي، مقارنة بحالة التشاؤم حول مستقبل النمو الاقتصادي العالمي التي كانت سائدة حتى شهر نوفمبر الماضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة