بعض الخبراء يجادلون بأن النظام الإيراني اعتاد التعايش مع العقوبات وأن سبل الالتفاف على هذه الآلية جاهزة، ولكن هذه الحجج غير دقيقة.
ربما يتجاهل النظام الإيراني، عن قصد أو غير قصد، التأثير الداهم للاقتصاد في مصيره، ويراهن على الأيديولوجيا في زمن لم يعد فيه موقع لنشر أفكار بائدة على حساب الحياة الكريمة للشعوب.
إنه الاقتصاد ياغبي.. هذه العبارة الأثيرة في الأدبيات السياسية الأمريكية، منذ الحملة الانتخابية التي قادت الرئيس الأسبق بيل كلينتون للفوز على جورج بوش الأب عام 1992، هذه العبارة تفسر إلى حد كبير ما يدور في إيران، فالاقتصاد بات يمثل الشبح الحقيقي الذي يهدد النظام الإيراني، الذي عاش طيلة العقود والسنوات الماضية يخشى غزواً خارجياً لإسقاطه، متجاهلاً الأثر المدمر لسياساته الاقتصادية الفاشلة.
ربما لا تنجح الاحتجاجات الحالية في إسقاط النظام بشكل فوري، ولكن حدوثها واستمرارها وانتشارها جغرافيا يعكس تآكل هيبة النظام وانهيار قبضته الأمنية التي طالما راهن عليها في تثبيت دعائمه، وبمرور الوقت سيلتحق الملايين بالمحتجين ويصبح انهيار النظام مسألة حتمية.
وقد أشار خبر نشرته مجلة "فوربس" الأمريكية المتخصصة، إلى أن معدل البطالة في إيران يبلغ نحو 9ر11%، ومعدل التضخم 3ر8، وأن هذه الأرقام ستكون جزءاً من الماضي بعد سريان العقوبات الأمريكية التي ستضع الاقتصاد الإيراني في مواجهة ضغوط ربما تؤدي إلى انهياره.
بعض الخبراء يجادلون بأن النظام الإيراني اعتاد التعايش مع العقوبات وأن سبل الالتفاف على هذه الآلية جاهزة، ولكن هذه الحجج غير دقيقة أو بالأحرى غير واقعية، لأن إدارة الرئيس ترامب قد طورت كثيراً في آليات تطبيق نظام العقوبات التي تفرضها على دول بعينها، بحيث باتت آلية قادرة على إنهاك أي اقتصاد مهما كانت قدرته على المناورة والالتفاف والتعايش مع العقوبات المفروضة عليه، ونموذج كوريا الشمالية لم يزل ماثلا للعيان، حيث بات مجرد التلويح بعقوبات أمريكية قاسية مؤشرا على حجم الجهد الذي يمكن أن تبذله الإدارة الأمريكية من أجل ضمان تحقيق النتائج التي تستهدفها.
على صعيد الصادرات النفطية، التي تبلغ نحو 8ر2 مليون برميل يومياً، سيكون من الصعب على إيران بيع نفطها الخام في الأسواق العالمية في ظل رغبة الكثير من الدول المستوردة في تفادي الاصطدام بإدارة ترامب، وهذا يعني تأثر نحو 64% من عائدات إيران النفطية التي تمثل مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة، صحيح أن هناك دول ستواصل استيراد النفط الإيراني، ولكن هذا الأمر مشكوك في استمراره بالنظر إلى ما ينطوي عليه من إضرار بعلاقات هذه الدول مع واشنطن.
من جانب آخر، فإن تأثير العقوبات الأمريكية على إيران بدأ بالفعل بالنسبة للعملة الوطنية، التي انهارت قيمتها بنسبة تبلغ 50% في توقيت قياسي يعكس الأثر النفسي الهائل للعقوبات على الأسواق الإيرانية، وقد تسببت ردود أفعال الحكومة الإيرانية وسياساتها المالية في مزيد من الإرباك والانهيار وارتفاع الأسعار ما أدى بدوره إلى نشوب موجة احتجاجات لا تزال مستمرة ولا يتوقع لها أن تخمد تماماً في ظل المعطيات الراهنة، لاسيما على صعيد تدهور الأوضاع المعيشية والبطالة وندرة فرص العمل، وهي مؤشرات حيوية تتجه إلى التفاقم لا الانحسار مع دخول العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ الفعلي في بداية نوفمبر المقبل، وتراجع الاستثمارات الأجنبية وهروب المستثمرين من السوق الإيراني، ما يعني استمرار تدهور معدلات النمو بكل تبعات ذلك وتأثيراته السلبية على الشعب الإيراني.
يقول أحد التقارير المنشورة إن الاقتصاد الإيراني يتجه نحو الإفلاس والافقار الجماعي للسكان، فهل يساوي ما يحدث لأكثر من ثمانين مليون إيراني من إفقار متعمد، ما يحققه هذا النظام عبر مخططه التوسعي الخارجي التآمري في سوريا والعراق واليمن وغيرها؟ باعتقادي أن العدو الحقيقي لإيران هو نظامها نفسه، فلن يكون بوسع الولايات المتحدة ولا غيرها من الدول جلب العداء الشعبي لهذا النظام بدرجة أكثر مما فعل هذا النظام بنفسه عبر سياساته الفاشلة، وطموحاته التي تتنافر تماماً مع أحلام شعبه في حياة كريمة يستحقها.
رسالة الإيرانيين واضحة منذ الاحتجاجات الماضية: "اتركوا سوريا"، هكذا هتف آلاف الشباب الإيراني الساخط، الذي يدرك أن هذه التدخلات الفاشلة تلتهم كل موارد بلاده، ولم يعد يقتنع بحجج وذرائع النظام التي تحاول إيهام الجميع زوراً وبهتاناً بأن سوريا حائط صد أمامي لمؤامرات من يصفهم النظام بالأعداء! أي صد وأي حائط في ظل حسابات استراتيجية تؤكد أن هذه التدخلات ليست سوى ترجمة لمشروع توسعي يتعارض مع مصالح شعب يفترض أن يخدمها هذا النظام البائس؟
بدلاً من الاعتراف بأخطاء نظام يقبع على قمة هرمه، يتهم المرشد الإيراني الأعلى من يصفهم بأعداء إيران بمحاولة تخريب الاقتصاد! هكذا تبدو ردود أفعال النظام الإيراني فاشلة في تلقي رسالة الشارع الإيراني، الذي بات يمتلك كل مقومات إطاحة هذا النظام منذ انضمام "البازار" بكل ما يمتلك من تأثير ودور تاريخي، لحراك الشارع الإيراني.
ربما لا تنجح الاحتجاجات الحالية في إسقاط النظام بشكل فوري، ولكن حدوثها واستمرارها وانتشارها جغرافيا يعكس تآكل هيبة النظام وانهيار قبضته الأمنية التي طالما راهن عليها في تثبيت دعائمه، وبمرور الوقت سيلتحق الملايين بالمحتجين ويصبح انهيار النظام مسألة حتمية رغم صعوبة توقع توقيت حدوثها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة