الفيلسوف الإسلامي الشيخ عبدالله بن بيّه يؤكد حاجة العالم إلى سلام تحميه الأخلاق لا سلام يحميه السلاح.
أنْ تستمع إلى الفيلسوف الإسلامي الشيخ عبدالله بن بيّه، فإنّك تستمع إلى صوت المعرفة ونداء الحكمة.. في آن.
يؤمن داعية التسامح العالمي بأنّ الذين يتصارعون اليوم هم "صبيان كبار" يجب أن ندلّهم على الطريق الصحيح. وينادي بضرورة الانتقال بفلسفة التسامح من "الإطار التربوي" إلى "الإطار القانوني" ومن "الإمكان" إلى "الإلزام".
التقيتُ الشيخ الجليل في مدينة أبوظبي، وسعدتُ بحضور الكلمة التأطيرية الرائعة التي ألقاها في افتتاح الملتقى السنوي لمنتدى تعزيز السلم.
تحدث الفيلسوف الإسلامي -رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي- عن حاجة العالم إلى سلام تحميه الأخلاق لا سلام يحميه السلاح، وقال: إن البشرية اليوم تقف على حافة الهاوية؛ لأنّه لأول مرة في التاريخ توجد أسلحة يمكن أن تُفني البشريّة، وهي تفلت من يد الحكومات، ويمكن أن تكون في أيدٍ غير رشيدة، وهو ما يوجب إقامة "حلف الفضول" الجديد.
ويمكننا إيجاز جوانب من رؤية العلّامة بن بيّه في النقاط التالية:
أولًا: فلسفة التسامح.. يقول الشيخ: "بدلًا من اعتبار التسامح مجرد إمكان متاح في الدين من بين إمكانات متعددة، حانَ الوقت لاعتباره إلزامًا دينيًّا، وواجبًا إيمانيًّا. فلا نكتفي بالمواءمة بين الدين والتسامح بوصفهما غير متناقضين، بل يجب أن نرتقي لإدراك الملازمة بينهما، بحيث يصبح التسامح واجبًا شرعيًّا وجزءًا من الدين".
إن مسيرة الدماء التي خاضتها الإنسانية بسبب التطرف الديني يجب ألا تستمر، لقد حان وضع نقطة نهاية السطر. وحيث إن المسلمين هم الضحية الوحيدة -تقريبا- في عالم اليوم لذلك الجنون الأيديولوجي، فإن المسلمين هم الأحوج إلى السلام في الإسلام وإلى السلام في العالم.
وفي الإسلام فإنّ "التسامح فوق العدل". وقد عبّر القرآن الكريم عن التسامح بأربعة مصطلحات قرآنية هي: العفو، الصفح، الغفران، الإحسان.
ويرى الشيخ أن الضعف طبيعة إنسانية، وأن التسامح هو ما يرمّم الضعف، ويشير إلى قول فولتير: "إنّنا جميعًا هشّون، وميالون إلى الخطأ؛ لذلك دعونا نسامح بعضنا بعضًا، إن التسامح هو أول قانون من قوانين الطبيعة".
ثانيًا: الإنسان قبل الإيمان.. يرى الشيخ بن بيّه أن "الكرامة الإنسانية" هي سابقةٌ على "الكرامة الإيمانية" في الإسلام. في القرآن الكريم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}. وكان العرب يقولون إن "الآخر" هو "الأخ" بزيادة راء الرحمة. ويقول الإمام على بن أبي طالب في احترام الآخر: "أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".
ثالثًا: حماية الكنائس واجب الإسلامي.. يرى الشيخ أن "آية المعابد" في سورة الحجّ إنمّا توجب على المسلمين حماية دور العبادة من كنائس ومعابد. يقول الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}. وقد قال ابن عباس والحسن البصري: إن هذه الآية توجب على المسلمين الدفاع عن الكنائس والمعابد كما يدافعون عن مساجدهم، وقد ذهب ابن القيم وابن عاشور إلى ذلك أيضًا.. حيث إن الدفاع في الآية ينتفِع منه أهل الأديان من مسيحيين ويهود وليس المسلمين فحسب.
رابعًا: تعارفوا وتعاونوا.. رؤية الإسلام للعالم. تقوم السياسة الخارجية للإسلام -إذا جاز التعبير- على مبدأيْن أساسييْن هما: التعارف والتعاون. يقول الشيخ بن بيّه: إن الوجه الأول هو التعارف.. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، وهذه دعوة للالتقاء. فالتعارف هو فعل تشاركي يقتضي تفاعلًا بين الطرفيْن وإرادة من الجهتيْن.. والتعارف ينقل الإنسان من ضيق "الأنا" إلى فسحة "النحن".
وأمّا الوجه الثاني فهو التعاون.. يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. قال الطبري: إنَّهُ خطاب لجميع الخلق، وسائر البشر هم مأمورون بالتعاون على المحبّة والبرّ.
وهكذا يُجمِل العلّامة بن بيّه الموقف الإسلامي تجاه العالم في الأمريْن القرآنييْن: وتعارفوا.. وتعاونوا.. ذلك أن "التعاون" هو الوجه المكمِّل لـ"التعارف".
خامسًا: حلف الفضول الجديد. إنّ حلف الفضول هو حلف أخلاقي تأسَّس في الجاهلية قبل بعثة الرسول صلى الله وعليه وسلم. فقد أدّت واقعة ظلم من العاص بن وائل تجاه أحد التجّار من خارج مكة إلى إحداث يقظة أخلاقية لدى عدد من سادات قريش. وكان أن اجتمعوا في دار "عبدالله بن جدعان" عام 590 ميلادية، وتعاهدوا على وقف الظلم، ومواجهة الظالم أيًّا كان مركزه، وإقرار العدل بين الناس. كان الشعار الرئيسي للحلف "لا يُظلم أحدٌ في مكّة".
كان الزبير بن عبدالمطلب هو من دعا إلى الحلف وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأبوبكر الصديق من بين الحضور ولم تكن الرسالة النبوية قد بدأت بعد؛ إذْ كان الرسول في العشرين من عمره، وقد امتدح الرسول صلى الله عليه وسلم حلف الفضول -بعد الإسلام- على الرغم من أنه كان يضم مشركين وعبدة أصنام، وقال: "لقد شهدت مع عمومتي حِلفًا في دار عبدالله بن جدعان، لو دُعيت به في الإسلام لأجبتّه".
وقد أشار إليه الإمام الحسين بن على رضى الله عنه -في عهد الخليفة معاوية- حين وقعتْ بينه وبين أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازلة، وقد قال الحسين: "احلف بالله لتنصِفني من حقّي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومنّ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم لأدعونّ بحلفِ الفضول". وقد استجاب للحسين عدد من صفوة المسلمين. فلما بلغ ذلك الوليد قام بإنصاف الحسين حتى رضى.
دعَا الشيخ بن بيّه إلى إقامة حلف فضول جديد، يكون حلفًا أخلاقيًا عالميًّا، يستلهم قيم الحلف العربي القديم.. في مواجهة الإرهاب العابر للقارات، ودعم تعاون الأديان الكبرى على قيم التسامح والاحترام.
يرى "منتدى تعزيز السلم" أن وثيقة الأخوّة الإنسانية التي قام بتوقيعها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، والحبر الأكبر البابا فرانسيس بابا الفاتيكان.. هي وثيقة عظيمة، وهي خطوة كبرى نحو تعزيز السلام بين الأديان.
إن مسيرة الدماء التي خاضتها الإنسانية بسبب التطرف الديني يجب ألا تستمر، لقد حان وضع نقطة نهاية السطر، وحيث إن المسلمين هم الضحية الوحيدة -تقريبًا- في عالم اليوم لذلك الجنون الأيديولوجي، فإن المسلمين هم الأحوج إلى: السلام في الإسلام وإلى السلام في العالم.
حان الوقت لنقول للمتطرفين في كل دين: حتى هنا.. كفى.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة