الأدباء والكتّاب هم أول مَنْ سردوا الأحداث السياسية والتاريخية.
فالروائي الفرنسي أونوريه دي بلزاك رأى أن "فظاعات" الثورة الفرنسية "غيّرت نفوس الناس"، ورأى "فرويد" أن "نابليون ليس بطلاً"، بل هو "مَن أضرم النار في أوروبا".
إنّ العنف والإرهاب -حتى لو انتهَيَا- يتركان آثارهما على المجتمعات، التي عاشت مآسيهما وويلاتِهما، ومع ظهور مفهوم "عولمة العنف" استمرت آثاره في جميع الوسائل السمعية والبصرية، ومن ثمَّ تركزت في ذاكرة الأجيال.. لذلك لا توجد قدرة سحرية ما ستحمي أي بلد من هذه الآثار، وهنا نتذكر ما كان سيصبح عليه العالم لو سيطر الإرهاب على بلد أو بلدين.
ولا شك أن تشريع مبادئ السلام والقانون، وسرعة أدوات الاتصال وابتكاراتها التكنولوجية، أسهمت في التخفيف من بشاعة الإرهاب، لكننا أصبحنا أمام إشكالية جديدة من آثار العنف، الذي يؤثر سلبًا على العقول الشابة ويحد من إبداعها الفكري والذهني.
ولعل الخطورة الكبيرة تكمنُ في اعتيادنا مشاهد القتل والتدمير المنقولة على شاشات التلفاز، حتى لو كان غرض المحطات الإعلامية نبيلا وتوعويا، ففي بلدان عديدة حاليا يُقبل الأطفال على اقتناء أسلحة بلاستيكية باعتبارها "ألعابهم المفضّلة"!.. الخطر كامنٌ إذًا في أخبار التفجيرات وأعداد القتلى بالمئات من البشر الذين يتحولون من آدميين إلى أرقام لا حياة فيها، ولا حيلة هنا للمُشاهد أمام هذه الصور المؤلمة، التي تبقى في أذهان الأطفال ولا تُمحى بسهولة.
لقد أصبحنا نعيش في قرن شرس، فلم يعد أحد يعبأ بالذاكرة وويلات الحروب، وما سبَّبته من دمار في الأرواح والنفوس، ما يذكرني بمقولة المفكر الفرنسي ريمون آرون: "حرب غير محتملة، سلام غير ممكن"!
وهناك حروب غير محتملة، لكنها وقعت وأصبحت واقعًا ملموسًا في عالمنا وأمثلتها كثيرة.. فالأعمال الوحشية والعنيفة، التي تعرّضت لها مجتمعات عانت ويلات الحرب لم تُشفَ من عواقبها الوخيمة حتى الآن، ولا يزال الروائيون يؤلفون السرديات عنها حتى وقتنا الحاضر، ولا تزال أشباح المفقودين تدق أبواب الناس ومخيلَتهم، ولا يزال العالم يعيش في تيهٍ دون بوصلة ترشده إلى برّ الأمان.
لا يزال الإنسان بحاجة إلى حوار مع التاريخ، لأن العلاقة بينهما فقدت توازنها منذ أن مزّق الإنسان نسيج هذه العلاقة، وحرّف مجراها الطبيعي، فالإرهاب يسعى إلى القبض على عالمنا وإشاعة ثقافة العنف، وهو ما تصدَّت له مفاهيم الديمقراطية والسلام في العالم أجمع.
وفي صميم الإرهاب والتطرف تستقر أهداف واحدة مرسومة: فقر، قتل، وحروب.. هذه هي القواسم المشتركة بين حفنة من البشر اعتنقوا الإرهاب دينًا.
إذًا، يستدعي القضاء على الإرهاب إشاعة ثقافة مضادة لثقافة العنف، وأمام مجتمعات العالم الثالث جهود كبيرة من أجل تجفيف منابع الإرهاب والبدء بالنشء عبر برامج التربية والتعليم، وذلك بحذف كل ما يمت إلى التطرف والعنف منها.
فهل نشهد هذا الوعي -أي القضاء على الإرهاب- في البنية الفكرية بطريقة علمية مدروسة؟
إن الإرهاب يسعى إلى إبعاد النخبة، فكلما تقدمنا في الوعي الإنساني وطوّرناه على أيدي هؤلاء النخبة، قضينا على الإرهاب بسهولة.
عالمنا يزخر بآثار الإرهاب والعنف، فقد عاشت فرنسا القرن التاسع عشر بكامله لتتخلص من آثاره، التي رافقت الاضطرابات المصاحبة للانقلابات والثورات، لكنها لم تتخلص منها نهائيًا، فهي تعود إلى الواجهة عبر البرامج والمؤتمرات والقمم، من أجل تصحيح هذا المسار أو ذاك.. وهكذا بالنسبة لنا، إذ تحتاج الدول التي عانت ويلات الإرهاب إلى وقت كبير لتتعافى منها، وذلك بدعم الاعتدال والوسطية عبر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، كما نحتاج إلى ضمان العدالة وسيادة القانون، وهذا لا يتم إلا من خلال تبني ثقافة جديدة تعتمد على تعميق قيمة العلم بعيدًا عن التجهيل، ونشر المحبة والتسامح والابتعاد عن الكراهية والعنصرية.
ولعل أصعب ما تعيشه المجتمعات المعاصرة حاليًا هو فقدان الأمل في رؤية المستقبل لأن البشرية تشعر بالخواء الروحي، كما يقول ماكسيم غوركي: "إن حاجتنا إلى النفوس البشرية أكبر من حاجتنا إلى الآلات الجامدة"، كما أن خلق بؤر صراع هنا وهناك يزيد من اشتعال العنف، لذلك تعيش مجتمعاتنا الحديثة صراعًا فكريًا وأخلاقيًا أكثر من أي صراع آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة