حتى وقت قريب كنت أظن أن شهر يوليو هو شهر الثورات. فيه كانت الثورة الأمريكية 4 يوليو 1776، والثورة الفرنسية 14 يوليو 1792، والثورة المصرية 23 يوليو 1952.
وكان المزاح السائد أن ذلك الشهر من شهور الصيف يتيح حالة من الخمول لدى السلطات القائمة، فتكون الثورة عليها سهلة، بينما تعطي أيام الإجازة الصيفية ما يكفي من تدبير للثورة على النظام القائم.
ولكن ذلك كان مزاحا على الثورات بمقدار ما كان على الثوار، ولكن الواقع هو أن الثورات يمكن أن تحدث في كل وقت عندما تتوفر عناصر متعددة، فيها ما هو سياسي بالتأكيد، ولكن هناك أيضا ما هو اقتصادي واجتماعي ويخص أفرادا وجماعات.
يناير أصبح الآن ينافس يوليو في الظاهرة نفسها.
بالنسبة لي مضت الآن خمسة وأربعون عاما منذ وقوع هذا الحدث الهائل عندما خرج المصريون بمئات الألوف أو قيل بالملايين في 18 و19 يناير 1977 احتجاجا على ارتفاع الأسعار ورفع الدعم عن السلع، التي لم يكن أحد ينتجها إلا الحكومة.
لم أكن أيامها في مصر، كنت قد غادرتها لأول مرة في حياتي عندما ركبت طائرة أخذتني إلى أمستردام، ومن هناك أخذت قطارا إلى مدينة "تلبيرج" في الجنوب الهولندي، حيث نزلت ضيفا على الجامعة لكي أعد بحثا، صدر بعد ذلك في كتاب عن أمر كان ذائعا في تلك الأيام، عن "الحوار العربي- الأوروبي".
هذه القصة ربما تستحق الرواية في وقت آخر، أما الذكرى عن أحداث 18 و19 يناير فقد كانت في زمن لم تكن فيه الفضائيات التليفزيونية قد وصلت إلى ما نعرفه الآن، ولا كان هناك بالطبع ذلك الحاسب الآلي الصغير، أو الـiPad، أو أي من أنواع الإلكترونيات الحديثة، التي تجعل القاهرة أو أيا من عواصم العالم على مرمى ضغطة "ماوس".
لم يكن هناك سوى الهاتف "الدولي" المكلف جدا، أما الأهم فإن مصر لم تكن أحوالها "التليفونية" على ما يرام. وهكذا جاءت أخبار ما جرى في 18 و19 يناير متناثرة ومجزأة، بعضها من الصحافة الهولندية، والبعض الآخر من الإذاعات الأوروبية، والبعض الثالث من أفواه من كان موجودا من العرب والمصريين الذين يهتمون بمصر في كل الأحوال.
ومن عجب أنه عندما عدت إلى مصر وحاولت تجميع عناصر ما جرى، لم تكن القصة بعيدة عما كنت أعرفه بالفعل. عرف الأمر الكبير في التاريخ المصري بـ"انتفاضة الخبز"، وعرفته السلطة السياسية على لسان الرئيس السادات بـ"انتفاضة الحرامية".
الفارق ما بين التعريفين يمكن فهمه في إطار الفجوة بين "الحكومة" و"الأهالي" أو الشعب، وهو فارق تنامى عبر الأيام خلال أربعة أعوام تقريبا ما بين نصر أكتوبر 1973، الذي وضع الحكم والرئيس السادات شخصيا في أرفع منزلة، وحينما جاء تاريخ 18 و19 يناير كان الحكم قد فقد الكثير من التأييد، وكذلك كان حال الرئيس السادات.
على أي حال فإن ما جرى تمت مراجعته مرات ومرات، ولكن الفارق لم يتقلص أبدا، وكان هناك من رأى في تاريخ اليومين جذور ما حدث في 25 يناير 2011، وكان هناك من رأى أن الزمن ما بين الحدثين لا يدفع إلى الاعتقاد بعلاقة من نوع أو آخر.
الصلات بين ثورتي يناير الأولى في 18 و19 يناير 1977 والثانية في 25 يناير 2011 لم تكن قليلة، فقد حدث كلاهما في أوقات انتعاش اقتصادي، فجرت الأولى في عهد ما سمي بـ"الانفتاح الاقتصادي"، الذي حققت فيه مصر معدلا للنمو زاد على 8٪، أما الثانية فقد جاءت بعد سنوات للنمو بلغت أحيانا 7٪.. الثورة الأولى انتهت باغتيال الرئيس السادات، والثانية وصلت إلى ذروتها بالإطاحة بالرئيس الراحل حسني مبارك.
وعن هذه الأخيرة صدر لي كتاب عن الثورة نشر في الذكرى الأولى للثورة المصرية في عام 2012، وظهر فيه أن أسباب الثورة المعقدة جلبت ثلاثة حزم، واحدة منها كانت هيكلية في البيئة المحيطة بالحدث الكبير، حيث بات الشباب أغلبية في الشعب المصري بكل ما لديهم من فوران وحماس وغضب. وسبب آخر جاء من التطور التكنولوجي الذي أتاح مساحات من التواصل والاتصال والتعبئة بين هؤلاء لم تكن متوافرة من قبل. وسبب ثالث هو أن وسائل الإعلام أصبحت من خلال فضائياتها مسببة لخلخلة في شرعية النظام القائم.
الحزمة الثانية كانت ظرفية لعبت دور العنصر المساعد على التعجيل بالتفاعل "الكيماوي"، وكان منها ثورة تونس، التي جعلت الإطاحة بالنظام ممكنة.
والجائز أن النمو الاقتصادي، الذي جرى بين عامي 2005 و2009 قد أعقبه تراجع بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008.
أما الحزمة الثالثة فقد كانت حول إدارة مبارك للأزمة، فقد كانت متأخرة في رد فعلها، وبطيئة في الإجراءات التي اتخذتها، كما أن مركز صنع القرار كان منقسما.
المزيد من التفاصيل ربما تُروى في وقت آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة