مجريات الحدث الكازاخي نبهت إلى سياقين هامين متفرعين من بُعدين، داخلي إقليمي، ودولي.
أولهما توقيت تَفجّره، قد يكون عنصراً مهماً في إطار وضعه ضمن نطاقه الاستقرائي، وفي محاولة فهم مراميه غير المعلنة وأبعاده المرتبطة بالبيئة الأمنية والاستراتيجية لأوراسيا عموما.
سبقت الأحداث محادثاتٌ روسية أمريكية مباشرة في جينيف في العاشر من الشهر الجاري بشأن نظرية "الاستقرار الاستراتيجي" على مستوى العالم، ومحاولة تثبيت ركائزها العامة تجنبا لأي انزلاق خطير يهدد الاستقرار العالمي، ومحادثات روسية أطلسية بعدها بيومين حول قضية توسع الناتو شرقاً، والتي تؤرق الجانب الروسي، ويعتبرها انتهاكاً لتفاهمات تمت بين الطرفين في تسعينيات القرن الماضي تحدد نطاق انتشاره، وتحديدا في محيط مناطق روسيا الجغرافية شرقا وشمالا.
والسياق الثاني هو تطويق الأحداث والسيطرة على أوضاع البلاد خلال فترة زمنية قصيرة، وإمساك السلطة الكازاخية القائمة بزمام المبادرة عبر تفعيل معاهدة الأمن الجماعي.
قراءة متأنية لكليهما تنبئ ببروز نسق سياسي-عسكري أوراسي تتبناه دول المعاهدة، أمْلته الضرورات الأمنية الاستراتيجية للراعية الكبرى ضمن المجموعة، وهي روسيا الاتحادية.
تدرك موسكو بعمق أن المواجهة العسكرية مع الناتو بدوله مجتمعةً، أو المواجهة المباشرة الثنائية، عسكرياً، مع واشنطن، هي من الخيارات التي يجري العمل من قبل الجميع على تجنبها عبر مداورات وتفاهمات استراتيجية الطابع تقدم الأهم على المهم من القضايا ذات الطابع الإشكالي، وتضع الأولويات للمشتركات بينهما على حساب التناقضات، التي يمكن أن تكون برميل بارود يحاول الجميع تجنب إشعال فتيله، ويناورون، في حالات الاحتقان الشديد، بالتنفيس عن طريق وكلاء كل جانب برسائل محدودة التأثير عميقة الدلالات يدركها الراسخون في لعبة الكبار لدى الفريقين الخصمين، تركيباً وتفكيكا.
الهزة القصيرة زمنياً، العنيفة عملياً، التي تعرض لها الوضع في كازاخستان، استدعت إعادة النظر بمقولة سابقة ملخصها أنها "الجمهورية الأكثر استقراراً وازدهاراً في آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي"، بحكم موقعها الجيوسياسي، وتداخل مصالح القوى الكبرى الإقليمية والدولية فيها تناقضا وتقاطعا، فالبلد الغني بموارده الطبيعية وثرواته الباطنية، يرتبط بحدود مع روسيا تصل إلى 7500 كيلو متر، وتَعتبرُ موسكو شمالَه جزءًا من جنوب سيبيريا، ونسبة المواطنين الروس فيه -تحديدا في عاصمته التاريخية المآتا- تقارب ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف شخص.
هذا بالنسبة لروسيا، أما ما يتعلق ببكين، فإن الطريق البري الأقصر الذي يربط الصين مع أوروبا هي كازاخستان، ما يجعل فكرة تحولها إلى منطقة تنازع بين واشنطن وبكين أمراً وارداً في خضم المواجهة المعلنة بين العملاقين.
إذًا، اضطراب كازاخستان لمصلحة مَن؟ هل المستهدف البلد ذاته، أم روسيا أم الصين أم جميعها؟
حدوث اضطرابات داخلية في أي بلد، أيّاً كانت دوافعها المعلنة أو المستترة، تضر بالدرجة الأولى بمصالح العباد واستقرار البلاد حاضرا ومستقبلا، فهما الخاسران الحقيقيان.
يخبرنا التاريخ، بجميع مراحله، أن الصراع بين القوى الكبرى يدور بينها في كثير من الأحيان على جزء كبير من ساحات أخرى تشكل إما نقطة ضعف وإما عامل قوة وتأثير لدى أحد الأطراف، وهو ما برز اليوم على الصعيد الكازاخي، بعد أن اتخذت الحرب الباردة بمفهومها السابق نمطاً أقرب إلى السخونة بين واشنطن وحلفائها الأطلسيين من جانب، وروسيا من جانب آخر، مرد سخونتها الراهن يعود إلى التحدي الصيني الأكثر تعقيدا أمام نزعة الهيمنة الأمريكية بحوامله الاقتصادية والتجارية أولا، والسياسية والعسكرية تالياً، وما تشهده علاقات موسكو من ترسيخ وتوثيق مع بكين.
تفتح الولايات المتحدة الأمريكية نوافذها الدبلوماسية على روسيا للتفاوض حول قضايا الاستقرار الاستراتيجي رغم الإرث العدائي التاريخي المستحكم بينهما، لكنها تتمنّع وتتجاهل النوافذ مع الصين رغم الحاجة السياسية لمنح هذه النافذة فرصة حقيقية.
تلقفت موسكو رسائل الحدث الكازاخي باعتبارها ممهورة من خصومها الأطلسيين وموجهة إليها وإلى قلب أوارسيا ومحيطها، إن لم يكن لإيلامها، فعلى الأقل لإقلاقها واستدراجها إلى ساحة صراع إضافية.
لا تستطيع روسيا قبول اضطراب في خاصرة تعدها معياراً لسلامة جسدها وقوته.. لا تسمح بانتقال عدوى الاضطراب الكازاخي إلى جيرانها المنضوين تحت رايتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، كازاخستان وبيلاروسيا وطاجيكستان وأرمينيا، في وقت تدير صراع "حافة الهاوية" في أوكرانيا مع واشنطن والناتو.
لا يترك الأمريكيون وحلفاؤهم سانحة استفزاز لروسيا في أي بقعة إلا واختبروا فيها ردات فعل الكرملين.
إعلان الرئيس الكازاخي، توكاييف، تَعَرُّض بلاده لـ"عدوان خارجي"، التقطها "بوتين" ليدشن مرحلة جديدة من مراحل فعل وفاعلية "معاهدة الأمن الجماعي"، بصفتها قوة إقليمية عسكرية وسياسية بزعامة موسكو.
رسالة روسية تحمل في طياتها إشارة واضحة إلى تكتل يمكن الركون إليه إذا ما تعلق الأمر بمصالحها الاستراتيجية.
الحدث الكازاخي انتهى ببُعديه الداخلي والخارجي.. اختبر الكبارُ قواعد اللعبة وفنونها وحدودها، عاد كل طرف إلى مربعه في انتظار ساحة اختبار جديدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة