قيل قديمًا في زمن الإمبراطورية الرومانية إن "مَن يُعطِ الخبز يُعطِ الشريعة أيضًا".
واليوم فإنه في حاضرات أيّامنا يمكن القول إن مَن يعطِ العالم المعلومات يتحكّمْ في الرأي العامّ ويوجّهْه متى يشاء.
لا يزال الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، يرى أن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي هي التي "تآمرت عليه" وتسبّبتْ في خروجه من "البيت الأبيض" وإخفاقه في الانتخابات الرئاسية 2020.
ولعلّ الذين استمعوا إلى الجدل الذي دار قبل بضعة أيام -على هامش ذكرى السادس من يناير، اليوم الذي أطلق عليه البعض يوم سقوط الديمقراطية الأمريكية- خَلصوا إلى أنّ القصة لم تنته، وأن الصراع قائم وقادم دفعة واحدة وفي الزمن القريب وليس البعيد.
في كلمته، التي وَجَّهها للأمريكيين نهار الخميس 6 يناير، سعى "بايدن" في طريق تحميل سلفه "ترامب" مسؤولية أحداث الهجوم على الكابيتول العام الماضي، موضِّحًا أن مناصري الرئيس السابق حاولوا -باقتحام مبنى الكابيتول- إعادة كتابة التاريخ بالقوة، في إشارة إلى محاولاتهم فرض رأي "ترامب"، الذي قال فيه إن الانتخابات كانت "مزوَّرة".
"بايدن" لفت إلى أنّ "ترامب" لم يقبل الهزيمة بالرغم من أن عددًا كبيرًا من مُقرّبيه اعترفوا بذلك، وخَصَّ بالذكر نائبه مايك بنس، متهمًا "ترامب" بأن أيّ رئيس لم يقم قطّ بما قام به.
لم يتأخّر "ترامب" في الردّ على "بايدن"، فقد عاود ادّعاءه بأنّه تمّ حرمانه من فترة رئاسيّة ثانية بسبب عملية "احتيال" شهدتها انتخابات الرئاسة 2020.
"ترامب" اتّهم "بايدن" بالفشل في العديد من الأمور، وأبرزها ما وصفه بـ"الانسحاب المُروّع" من أفغانستان، إضافةً إلى مشكلات الحدود والتضخّم والطاقة.
الشاهد أنّه ما بين خطاب "بايدن" وردَّات فعل "ترامب"، تبدو الولايات المتحدة الأمريكيّة في حيرة من أمرها أمام رئيسَيْن سابق ولاحق، وكلاهما يضع رهاناته على الوصول إلى الرأي العامّ الأمريكيّ ومحاولة إقناع الجماهير الأمريكيّة، كلّ بتوجّهاته وآرائه.
في هذا السياق، يتذكّر الأمريكيون كيف أن شبكة التواصل الاجتماعي "تويتر" كانت قد أوقفت حساب الرئيس "ترامب" ومنعت تواصله مع الجماهير الأمريكية، ما اعتبره "ترامب" -ولا يزال- ضربة في العمق، أسهمت بشكل كبير في إقصائه عن "البيت الأبيض" وضياع فرصته الرئاسيّة الثانية.
بدا أن "ترامب" لم يفقد أدواته في مدّ الجسور مع الأمريكيّين، فقد أعلنت الشركة المسؤولة عن تأسيس شبكة تواصل اجتماعي مستقبليّة خاصّة به، ستشارك في دعمها وتأسيسها والتبرع لها مؤسّسات استثماريّة بمليار دولار.
حديث التبرعات هذا، والتي يضاف إليها مبلغ يصل إلى 250 مليون دولار، جمعتْها مجموعة "ترامب للإعلام والتكنولوجيا"، يحتاج إلى وقفة تحليليّة سوسيولوجيّة مهمّة، لا سيّما وأن هوية تلك المؤسّسات الاستثماريّة، التي تعهّدتْ بتقديم التمويلات لا تزال غير معروفة.
التحليل يأخذنا إلى دائرة مهمّة وخطيرة في الوقت نفسه، فلجمع مبلغ كبير مثل هذا، لا بدّ من وجود شخصيّات ومؤسّسات كبيرة وقويّة وواسعة الانتشار ولديها إمكانيّات ماليّة، فيما الأمر الثاني هو أنها تؤمن بـ"ترامب"، وموقنة بأن "مؤامرةً" ما قد حيكتْ له لأنه قادم من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية بكوادرها من الجمهوريين والديمقراطيين، تلك التي باتت موصومة بـ"بيع الديمقراطية على الأرصفة لمن يدفع أكثر"، أي يقوم بالتبرع أكثر، وهي القضية التي لم تحسمها بعدُ المحكمةُ الدستوريّة العليا في البلاد.
والثابت كذلك أنّ جَمْع "ترامب" مثل هذا المبلغ الكبير، يعكس أبعاد المعركة القادمة، إذ لا يزال هناك نحو 74 مليون أمريكيّ متحفّزين للانتخابات الرئاسيّة القادمة في 2024، وربّما قبلها سنرى إرهاصات الصراع المعرفيّ والمعلوماتيّ في الداخل الأمريكيّ من خلال انتخابات التجديد النصفيّ للكونجرس الأمريكيّ في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
الذين يتابعون رؤى وقراءات عدد من كبار العقليّات الأمريكيّة، لا سيما روبرت كاغان، أحد أهمّ أركان المحافظين الجدد، عن أحوال الصراع المجتمعيّ الأمريكيّ، يدركون وبقوّة أن هناك إشكاليّة كبيرة في طريق البلاد، إشكاليّة الصراع المعلوماتيّ بين ديمقراطيّين يؤمنون بفوز "بايدن"، وجمهوريّين يرفضون الإقرار بالفوز السابق، وباتوا متحفّزين بالإرادة و"القوة"، في طريق الاستعداد للمواجهة القادمة.
هنا يبقى السؤال: هل ستؤثّر شبكة ترامب التي ستُعرف باسم "تروث سوشيال" على واقع الحال الأمريكيّ؟
بدايةً، يعني الاسم بأقرب مفهوم، "شبكة الحقيقة الاجتماعية"، والعنوان يعكس نيّات الشبكة الوليدة، أي البحث عن الحقيقة الغائبة في ظلّ سطوة الدولة الأمريكية العميقة، تلك التي تتداخل فيها خيوط المؤسّسات الأمنيّة والاستخباريّة، وتتقاطع مع خطوط مجمّعات النفوذ وصناعة القوة، لا سيّما المجمع الصناعيّ العسكريّ الأمريكيّ، ذاك الذي لمح في الأفق توافقًا أمريكيًّا روسيًّا، يقطع الطريق على المزيد من إنتاج ورواج الأسلحة، وربّما كان ترامب أفضل حظًّا من سابقه جون كيندي، الذي كلّفتْه الفلسفة التوافقيّة عينُها حياته، وهذه قصّة أخرى.
هل سيطول انتظار الأمريكيّين والعالم لشبكة "ترامب" الجديدة والوليدة؟
في واقع الأمر، إن بضعة أسابيع تفصلنا عن الحدث، الذي سيحمل نوعًا من أنواع التسونامي المعلوماتيّ في الداخل الأمريكيّ، إذ تعتزم المجموعة الإعلاميّة التابعة للرئيس "ترامب" إطلاق الشبكة في 21 فبراير/شباط المقبل، بحسب ما جاء في إعلان على متجر "أبل ستور" لتنزيل التطبيقات في السابع من يناير الجاري، وستكون لهذا التطبيق ميزات مشابهة لأدوات الاتّصال الموجودة على "فيسبوك".
يبدو "ترامب" مصمّمًا على الثأر من الذين "خدعوه" -على حدّ تعبيره- وقد قال حين قرّرَ تأسيس هذه المنصّة إنّها "للوقوف في وجه استبداد عمالقة التكنولوجيا"، متّهمًا كبريات الشركات في وادي السيليكون بأنها استخدمت سلطتها الأحاديّة لـ"إسكات الأصوات المنشقّة في الداخل الأمريكيّ".
حين دلف "ترامب" إلى دائرة العمل السياسيّ، حَرَّك بالفعل المياه الراكدة في بحر الحياة الحزبيّة الأمريكيّة، وها هي الملايين تتبعه.
هل سيغيّر "ترامب" مرة أخرى بشبكته القادمة عَمّا قريب من سطوة وشموليّة الشركات الثلاث، تويتر وفيسبوك ويوتيوب، والتي اتّخذتْ منه إجراءات منافية ومجافية للحرية الأمريكيّة وحقّ المرء في التعبير عَمّا يؤمن به؟
القصّة عميقة وخطيرة، لا سِيّما في ضوء ما توافر ويتوافر في الأيام الأخيرة من معلومات بشأن دراية سابقة لأجهزة استخباريّة أمريكيّة بشأن أحداث نهار السادس من يناير وصمتها، ما يعني أنه كان مطلوبا خروج المشهد على ما بدا عليه بالفعل.
قبل حظره، كان لـ"ترامب" 89 مليون متابع على "تويتر"، و35 مليونًا على "فيسبوك"، و24 مليونًا على إنستغرام.
تُرَى كم مليونًا سوف يتجمّع من حول شبكة "تروث سوشيال"، التي تكاد تهزّ أركان المجتمع الأمريكيّ.
الخلاصة، أمريكا في مواجهة زلزال اجتماعيّ قريب جدًّا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة