أسبوع دبلوماسي حافل باللقاءات في جينيف وبروكسل وفيينا، بين روسيا من جهة، وأمريكا والناتو ومنظمة الأمن الأوروبي من جهة ثانية.
كان الهاجس الأكبر في المحادثات، التي جرت بين الجانبين، هو ضبط الساعة الأمنية، بعد أن تصاعدت حدة التوتر بينهما على شكل "حرب باردة جديدة"، تراوحت رقعتها بين أوكرانيا، والحد من التسلح، وتعزيز الأمن في أوروبا، والحرب الاستخباراتية والسيبرانية، التي تصاعدت وتيرتها في السنوات الأخيرة بين الجانبين.
وقد ذهبت روسيا إلى هذه المحادثات تحت عنوان واحد، هو "عدم تقديم تنازلات"، وهي في شرطها هذا وضعت بندين أساسيين:
الأول عدم السماح لأوكرانيا بالانضمام إلى الحلف الأطلسي، والثاني الحصول على ضمانات بعدم توسع "الأطلسي" شرقا نحو حديقتها الخلفية.
في المقابل لوّحت واشنطن مسبقا بـ"العقوبات" ضد روسيا ما لم تحد الأخيرة من "سلوكها العدواني"، لا سيما بعد حشد موسكو عشرات الآلاف من جنودها على حدود أوكرانيا، عقب سنوات من فرض سيطرة موسكو بالقوة على شبه جزيرة القرم، ولعل هذه المواقف المسبقة للطرفين دفعت بالمحللين السياسيين إلى التوقع مسبقا بعدم حدوث اختراق في المحادثات، خاصة أن روسيا أرسلت رسالة قوية للغرب من خلال تدخلها السريع والقوي في كازاخستان، بعد أن اتهمت ما جرى في هذا البلد بـ"الإرهاب"، حيث إن ما جرى هناك من شأنه -لو حدث- تحريك المياه الراكدة في آسيا الوسطى والقوقاز المتخمتَيْن بموارد الطاقة، في ظل حرص روسي مستميت على إبقاء هذه المنطقة تحت أنظارها القيصرية وفق الرؤية الأوراسية، التي تعتمدها روسيا في سياستها.
محادثات جينيف بين أمريكا وروسيا كشفت حقيقة حرصهما على عدم الذهاب إلى الصدام والمواجهة، وأهمية الجنوح نحو تفاهمات عبر تدوير الزوايا، ونسج توافقات بشأن القضايا الخلافية لتخفيف التوتر، وهو ما أعطى صورة مغايرة للحرب الكلامية، التي نشأت بين الجانبين منذ وصول الرئيس بايدن إلى "البيت الأبيض"، وحديثه الناري ضد "رأس الهرم الروسي"، خاصة عندما وصف الرئيس بوتين بـ"القاتل"، وتهديده بـ"أشد العقوبات" ضد روسيا في العديد من المناسبات، فحديث كل من المفاوضَين الروسي، سيرغي ريابكوف، والأمريكي، ويندي شيرمان، عقب محادثات جينيف أوحى بتفاهمات ضمنية ربما تنتظر جولات جديدة من المحادثات لإنضاج هذه التفاهمات والوصول إلى اتفاقات.
فـ"ريابكوف" أعلن صراحة أن بلاده "لا تنوي مهاجمة أوكرانيا"، واصفا المحادثات بـ"الصعبة والمهنية والعميقة"، وهو ما قوبل بخطاب أمريكي مماثل، مفاده ضرورة التزام سيادة الدول، واحترام حرية خِياراتها السياسة، وهو ما يُشكّل منطلقا للحوارات التي ستجري بين مجموعات الخبراء، التي وافق الطرفان على تشكيلها في وقت سابق.
القناعة بإمكانية تدوير الخلافات بين موسكو وواشنطن تتجاوز القضايا الخلافية الثنائية بينهما إلى قضايا جيوسياسية عالمية، فروسيا تدرك جيدا أن الإدارة الأمريكية لن تغامر بالذهاب إلى مواجهة ضدها والصين معا، في وقت تضع فيه أمريكا المنافس الصيني كأولوية -ليست لروسيا- كما أن واشنطن في علاقاتها مع حلفائها الأوروبيين والأطلسيين، لا سيما تركيا، ليست على وفاق تام، بل تعاني مظاهر الخلل وأحيانا غياب الثقة، خاصة بعد قصة صفقة الأسلحة، التي كانت ستشتريها أستراليا من فرنسا، وذهاب واشنطن إلى تحالفات دولية خارج حلف الأطلسي، وفي الوقت نفسه تدرك واشنطن أهمية الوصول إلى تفاهمات مع موسكو، لا لضبط سلوكها الأمني هنا وهناك، بل لأهمية هذه التفاهمات في استراتيجيتها تجاه الصين، ولقطع الطريق أمام إقامة تحالف استراتيجي بين موسكو وبكين، فضلا عن أن أي تفاهم أمريكي-روسي لا بد أن ينعكس إيجابا على القضايا المتوترة في الشرق الأوسط، مثل سوريا وليبيا وأزمة النووي الإيراني، فهي كلها ملفات مهمة لوقف سياسة الاستنزاف، وتحديد البوصلة.
قد لا ينتهي الأسبوع الدبلوماسي بين روسيا والغرب باتفاقيات قانونية واضحة، لكنه يؤكد قناعة الطرفين بأن العملية الدبلوماسية هي الأفضل في جميع الأحوال من الذهاب إلى مواجهة عسكرية، خاصة أن الحوار مفتوح على تفاهمات مرحلية من شأنها ضبط الساعة الأمنية، وفتح الباب على مقايضات وصفقات عبر تدوير الزاويا والخلافات، ما يعني استمرار الخلافات في ظل تمسك كل طرف بما يعتقده "ثوابت" لا تنازل عنها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة