جميع الثورات العربية منذ 2011, شارك فيها تيارات وأحزاب ونخب متناقضة لا تتفق على هدف واحد, وذلك لانعدام وجود قيادة موحدة لأي منها.
طغى على المقال السابق المنشور في هذه الصفحة يوم 10 يونيو 2019 تحت عنوان "بارعون في الهدم.. فاشلون في البناء" مزاج سلبي يركز على النقد دون تقديم حلول، ويعمد إلى التفكيك دون بناء، فوجدت نفسي واحداً من الذين يتقنون الهدم ولا يجيدون البناء، لذلك سيكون هذا المقال مركزاً فقط على ما كان ينبغي أن يكون عليه التغيير في الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع المشؤوم.
هذه الأفكار وغيرها كثير وصلت لمن كانوا في سدة التغيير في مصر وقتها، ولكنهم ظنوا أن الفرصة قد جاءتهم على طبق من ذهب، فتصرفوا بمنطق انتهازي، معتقدين أن زمن التمكين قد جاء، وأنهم لابد أن يعيدوا تشكيل الدولة المصرية، ويتخلصوا من ميراث سبعة آلاف سنة في أيام معدودات.
أولاً: كان ينبغي أن يكون هناك وضوح في أهداف التغيير أو الثورة، وهنا نجد أن ثورات العالم عبر التاريخ كانت تنحصر في تحقيق واحد من ثلاثة أهداف هي: تغيير الدولة، أو تغيير النظام، أو تغيير الحكم. وتغيير الدولة حدث في ثورة الخميني، حيث تم تحويل إيران من دولة فارسية الهوية والتاريخ، إلى ما يشبه خلافة فاطمية في طور التكوين، وتغيير النظام حدث في الثورة الفرنسية، وفي ثورة مصر 1952، وغيرهما حيث كان الهدف هو الحفاظ على هوية الدولة، وعلى مؤسساتها السيادية، وعلى كل مقدراتها وعلاقاتها الخارجية، والتزاماتها الدولية، ولكن تغيير نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، ومن رأسمالي إلى اشتراكي، ومن ليبرالي إلى نظام شمولي يتحكم فيه حزب واحد، أما تغيير الحكم فهذا يحدث عندما تكون الحكومة وباقي مؤسسات الحكم فاشلة أو فاسدة، والهدف هو تغيير القائمين على الحكم, مع الحفاظ على النظام وطبيعته وعلى الدولة ومؤسساتها، وهذا حدث في العديد من حركات التغيير مثل ثورة السودان التي خلعت النميري 1985، وغيرها.
جميع الثورات العربية التي انطلقت منذ 2011, شارك فيها تيارات وأحزاب ونخب متناقضة لا تتفق على هدف واحد, وذلك لانعدام وجود قيادة موحدة لأي منها، وإنما قادتها جماعات انتهازية غير متوافقة، بعضها يهدف لتغيير الدولة، وبعضها يهدف لتغيير النظام، وبعضها يهدف لتغيير الحكم، ولذلك فشلت جميعا لعدم وضوح الهدف، وكان ينبغي أن يكون الهدف هو تغيير النظام، أو تغيير الحكم، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، ولكن لوجود تنظيم الإخوان في كل هذه الثورات, ارتبكت الأهداف، وتم الانزلاق إلى تفكيك الدولة ذاتها كما حدث في سوريا، وليبيا، ومصر فترة حكم الدكتور محمد مرسي.
ثانيا: كان ينبغي أن يتم الحفاظ على مؤسسات الدولة، والاستفادة من كوادرها الوطنية، وعدم التعامل مع كل ما كان موجوداً على أنه من مكونات النظام السابق، ومن ثم يجب التخلص منه، كما فعل جون بريمر الحاكم الأمريكي للعراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، ثم جاءت بعده الحكومات الطائفية واستخدمت قانون اجتثاث البعث لتفريغ العراق من كل ثروته البشرية، وإفلاسه بصورة كاملة، كذلك حدث الأمر نفسه في مصر مع حكم الإخوان، وفي ليبيا، وفي تونس فترة المنصف المرزوقي، ثم عادت تونس ومصر وبقيت ليبيا تصارع من أجل البقاء.
التاريخ يذكر أن ثورة الضباط الأحرار في مصر 1952، حافظت على مؤسسات الدولة التي كانت موجودة في عهد الملك فاروق، خصوصاً المؤسسات السيادية، وحافظت على الكوادر الوطنية، وظل وزير خارجية مصر محمد فوزي وهو من أهم رجالات الملك حتى 1965. فليس كل من كان يعمل في النظام القديم ينبغي التخلص منه؛ لأن البناء لابد أن يقوم على أفضل ما هو موجود، وليس من خلال هدم الموجود دون وجود بديل.
ثالثاً: الدول العربية التي مر بها الربيع المشؤوم جميعها جمهوريات نشأت بعد التحرر من الاستعمار، تغولت فيها الدولة على المجتمع، وتوحشت مؤسساتها, بصورة قادت إلى إفلاس المجتمع، وإفقاده كل قواه التاريخية، فتم القضاء على المؤسسات الطبيعية الفاعلة مثل: مؤسسة الوقف التي تم تأميمها لمصلحة بيروقراطية الدولة، وتم القضاء على الأحزاب، وإضعاف النقابات والاتحادات، لذلك كان ينبغي أن يكون التغيير هادفاً لإعادة التوازن بين الدولة والمجتمع من خلال تقوية المجتمع، وإعادة تفعيل مؤسساته جميعا من المجتمع المدني والعمل الخيري، إلى النقابات والأحزاب، إلى القطاع الخاص الوطني، ولكن للأسف سيطر على الحكومات التي جاءت بعد الربيع العربي تيارات تؤمن بأن تقوية الدولة السبيل الوحيد للتمكين والتحكم، وهنا أقصد تنظيم الإخوان ومن سار في ركابهم، وتجاهلوا تماما إعادة تمكين المجتمع، فكانت نتيجة ذلك أن فقدوا الدولة، وبذلك فقدوا الوجود، وظل المجتمع عالة على الدولة، ولم يحدث أي تغيير سوى تغيير الوجوه والأسماء.
هذه بعض أفكار حول ما كان ينبغي أن يكون، وللأمانة هذه الأفكار وغيرها كثير وصلت لمن كانوا في سدة التغيير في مصر وقتها، ولكنهم ظنوا أن الفرصة قد جاءتهم على طبق من ذهب، فتصرفوا بمنطق انتهازي، معتقدين أن زمن التمكين قد جاء، وأنهم لابد أن يعيدوا تشكيل الدولة المصرية، ويتخلصوا من ميراث سبعة آلاف سنة في أيام معدودات.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة