مصر ذهبت تدريجيا وعلى مراحل سياسية متدرجة وحقيقية للحل، قبل أن يذهب الرئيس السيسي إلى قاعدة محمد نجيب بخطاب سياسي واستراتيجي
جاءت رسائل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من قاعدة محمد نجيب ووسط وحدات نوعية للجيش المصري، ومشاركة قيادات الجيش في إشارة لا تغيب عن التحليل أن الرسالة ليست سياسية بل هي عسكرية واستراتيجية من الطراز الأول.
رسائل السيسي قادرة علي الردع في توقيت له دلالاته وأهدافه التي يمكن التوقف أمامها وفي ظل تقييمات سياسية واستراتيجية بأن تركيا لن ترتدع، وأنها في مسار تصعيدي لتحقيق أهدافها، ومن ثم فإن الإشكالية الحقيقية ليست في قدرة مصر على نقل رسائلها فقط بل والعمل على مسارات حقيقية ومتعددة في آن واحد .
الأول: أن مصر ما تزال تتبنى الخيارات السياسية وأنها تسعى لحل سياسي، حيث طرحت في إعلان القاهرة العديد من البنود للعودة للتفاوض وفق مسار برلين والمرجعيات الأخرى، وأن هذا الأمر ظل مطروحا ولا يزال بمعنى العودة إلى الأفق السياسي الذي يبقى هو الرئيسي في مسار التحركات المصرية والعربية، ومن المفترض أن يكون دوليا.
وبالتالي فإن مصر ذهبت تدريجيا وعلى مراحل سياسية متدرجة وحقيقية للحل، قبل أن يذهب الرئيس السيسي إلى قاعدة محمد نجيب بخطاب سياسي واستراتيجي، وليأتي الخيار العسكري محتملا قبل الخيار السياسي ردا على ما تقوم به تركيا في هذا التوقيت ومسعاها لبناء مسار عسكري واحتلال مقيم ترفضه القوى الليبية على مختلف درجاتها، وتراه اغتصابا للموارد الليبية من قبل الرئيس التركي أردوغان ومن معه.
هناك توقع بأن العمل العسكري قادم من خلال تحرك مصري لتأمين مصالحها وحدودها وحسم الأمر في منطقة سرت وما يجاورها.
الثاني: أن مصر دعت المجتمع الدولي لتحمل مسؤوليته الأمنية والسياسية ليس في ليبيا، وإنما أيضا فيما يجري في الإقليم، وتحديدا في شرق المتوسط حيث التحركات التركية غير المشروعة المهددة للأمن القومي العربي والأوروبي معا.
ومن ثم فإن مصر تتحرك في إطار من الثوابت والمعطيات الراسخة التي يمكن أن توقف التحركات التركية عند حدود معينة بصرف النظر عن امتداداتها الحقيقية، والتي تشير إلى تدخلات تركية في الدول العربية تشابه ما فعلته إيران وما تزال تفعله.
ومن ثم فإن الحل الاتجاه إلى محاصرة التمدد التركي وهي مهمة عربية ومصرية بالأساس، لأنه لا يمكن أن تترك الأمور بهذه الصورة للجانب التركي ليعيد تشكيل الخريطة العربية بكل ما فيها من ثوابت حقيقية، ومن ثم فإن رسائل الرئيس السيسي واضحة تماما، وتمثلت في دعم قدرات الجيش الليبي وبناء قاعدة مجتمعية مهمة تستند على أبناء الشعب الليبي في هذا التوقيت، وبالتالي فإن ما رددته قيادات ليبية من زعماء القبائل والعشائر دعما لما أعلنه الرئيس السيسي ليس غريبا في ظل الامتداد القبائلي والعشائري بين مصر وليبيا.
الثالث: رد الفعل التركي الذي جاء في سياق تفهم الرد المصري والإشارة إلى أن هناك تفاهمات لما يجري على الحدود المصرية الليبية، خاصة وأن ما سبق من دعوات تدعو بالفعل إلى طرح تركي يركز على مصر، ويقر بإمكانية أن تجري تفاهمات حقيقية في ملفات عدة في الوقت الراهن وارتكانا حقيقيا للمصالح في شرق المتوسط، وليس في ليبيا على طريقة المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة التي تتعامل بها السياسة التركية وفقا لمبدأ النفعية، والتي تقر السياسة من باب براجماتي حقيقي في الإقليم وهو ما جرى في سوريا ويجري في ليبيا، وسينطلق في المتوسط تحت حسابات استراتيجية وسياسية حقيقية لا يمكن تجاوزها في ظل المتغيرات الطارئة في الإقليم بأكمله، على اعتبار أن ليبيا جزء من كل، خاصة وأن مصر تدرك ذلك في ظل تقييمها السياسي والاستراتيجي الكامل في المعادلة الليبية المعقدة بالفعل، والتي تحتاج إلى مراجعات من الأطراف الإقليمية والدولية .
الرابع: في ظل ما يجري أي السيناريوهات أرجح؟.
السيناريو الأول : هناك توقع بأن العمل العسكري قادم من خلال تحرك مصري لتأمين مصالحها وحدودها وحسم الأمر في منطقة سرت وما يجاورها، والانتظار لحين تحقيق الاستراتيجية المتكاملة وهو سيناريو واقعي وسيكون له تداعياته حال حدوثه على ملفات سد النهضة وشرق المتوسط، على اعتبار أن مصر في طريقها لتوظيف خياراتها العسكرية الكبيرة، وهو ما سيغير من قواعد اللعبة في الإقليم حيث سيذهب الجيش المصري ليفرض إمكانياته وقدراته بعد سنوات من تبني خيارات محددة، خاصة وأن خبرة وقدرات الجيش المصري الكبيرة - والتي تضع الجيش المصري في المرتبة التاسعة وفقا لتقارير "جلوبال فاير / راند / سيبري" ستدفعه إلى فرض نظرية الردع في توقيت بالغ الأهمية، وبدعم عربي من قبل السعودية والإمارات، وذلك بصرف النظر عن ردود فعل دول الجوار الإقليمي لمصر حيث المواقف غير الواضحة والمكررة، والتي تعيد الملف الليبي إلى مرحلة ما قبل اتفاق الصخيرات وهو الاتفاق الذي انتهى على الأرض.
والسيناريو الثاني: أن يتراوح الموقف المصري ما بين المواجهة المحتملة، والردع الاستباقي، مما يؤكد على أننا أمام تحولات حقيقية مهمة يمكن أن تفرض خياراتها، حيث ستتم بعض التدابير السياسية والاستراتيجية من بعض الأطراف الدولية، وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة بعد دخولها على الخط مؤخرا لحسم الأمر بصورة عاجلة.
ولكن هذا الأمر لن يتم إلا من خلال اتفاق سياسي عام وإجراءات حقيقية وترتيبات أمنية مهمة يمكن العمل من خلالها، وهو أمر قد يتزامن مع قيام مصر بفرض إجراءاتها العسكرية أولا ثم الدخول في اتفاقيات سياسية لاحقا، أي أن العمل العسكري سيكون مقدمة حقيقية لعمل سياسي قادم لكن بعد أن تكون الرسائل قد وصلت بالفعل إلى الجانب التركي، ومن ثم فإن قدرة الردع الاستباقية سيكون لها دور مهم في هذا الإطار .
يبقى التأكيد إذن أن الأمور ليست كلها في إطار من السيناريوهات السياسية أو العسكرية البحتة، وإنما أيضا من خلال إجراءات مهمة اتخذتها مصر وحسمت خياراتها، فالرئيس السيسي كان واضحا ومباشرا، وحدد الخطوط لكل مساحات التقارب المحتملة والمستبعدة، والتي يمكن أن تطرأ برؤيته الاستشرافية المستقبلية، وهو ما تدركه تركيا وروسيا والولايات المتحدة، وستعمل على التماهي إيجابا وسلبا مع تطوراته، ويشير أيضا إلى أن مصر هي من ستحدد إطار العمل سواء كان عسكريا استباقيا أو وفقا لسياسة رد الفعل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة