الثابت أن قنديل بات كابوسا يحاصر أردوغان بعد أن راهن عليه مرارا في تحقيق حلمه بالبقاء في السلطة والانتقال إلى حكم السلطنة كما يخطط
تحولت جبال قنديل، معقل حزب العمال الكردستاني في المثلث الحدودي التركي العراقي الإيراني، إلى عقدة مستعصية لأردوغان، وفي الوقت نفسه إلى شماعة لتبرير عدوانه على الأكراد والعراق، وكذلك إلى حجة دائمة له لتوجيه أنظار الداخل إلى الخارج كلما استدعت الحاجة، سواء أكانت لأسباب سياسية أو لاستحقاقات انتخابية، حتى أصبحت "قنديل" أسطورة في أذهان الكثيرين من الأتراك والأكراد معا.
خلال ربع قرن، قامت تركيا بأكثر من ثلاثين عملية عسكرية ضد معاقل الحزب الكردستاني في "قنديل"، هدرت خلالها الكثير من الدماء والأموال والجهود والخطط العسكرية، فضلا عن تهجير أهالي عشرات القرى الكردية، لكن جميع هذه العمليات فشلت في القضاء على الحزب الكردستاني أو في الوصول إلى معقله الرئيسي، إذ في نهاية كل حملة عسكرية، يعاود الحزب الكردستاني عملياته ضد الجيش التركي فيما ينتظر أردوغان مناسبة أخرى تخدمه لإطلاق عملية عسكرية جديدة، حيث تقول التقارير التركية إن العمليات والحملات العسكرية التركية ضد "الكردستاني" كلفت خزينة الدولة حتى الآن أكثر من خمسمئة مليار دولار، وهو مبلغ كاف لتحقيق نهضة اقتصادية في تركيا ويخلصها من أزماتها المالية المتفاقمة، دون أن يستخلص أردوغان الدرس الذي يجب استخلاصه، وهو أن الحل الوحيد الممكن لهذه القضية هو الحل السياسي السلمي، إذ أنه الأقل تكلفة والأكثر ديمومة، وهو يتعلق أولا وأخير بتحقيق الديمقراطية التي هي المدخل الأساسي لتحقيق الاستقرار والنمو والتنمية.
قامت تركيا بأكثر من ثلاثين عملية عسكرية ضد معاقل الحزب الكردستاني في "قنديل"، هدرت خلالها الكثير من الدماء والأموال والجهود والخطط العسكرية.
اليوم، ومع العدوان التركي الجديد ضد "قنديل" وإقليم كردستان والعراق باسم "مخلب النمر"، يقول المسؤولون الأتراك أنهم سيواصلون حملتهم العسكرية في إقليم كردستان العراق، وأنهم سيبنون قواعد عسكرية دائمة هناك، دون أي اعتبار للسيادة العراقية أو للقرارات والمواثيق الدولية، والسؤال هنا، ما الذي يدفع أردوغان إلى القيام بمثل هذا الهجوم؟ في الواقع، ثمة أسباب كثيرة تقف وراء قراره بالهجوم، فعملياته العدوانية في شمال سوريا وشرقها، وكذلك في ليبيا حفزته للمزيد من العدوان والاحتلال، لكن الأهم في عملية "مخلب النمر"، هو العامل الداخلي التركي المتعلق بحسابات أردوغان السياسية، فالرجل الذي يرى أن شعبيته تتراجع، وحزبه ينهار على وقع استقالات كبار قادته، والمنشقون عنه يؤسسون أحزابا جديدة، والمعارضة الشاملة ضد نظامه تتصاعد، والأزمات المالية والاقتصادية تتفاقم يوما بعد أخر... أمام كل هذه الانهيارات والأزمات، لا يجد أردوغان سوى اللجوء إلى ممارسة لعبة شد أنظار الداخل إلى الخارج لزيادة شعبيته وخلق حالة من التعبئة والشعبوية في الداخل، وهكذا ورط الجيش التركي في حروب كثيرة، من سوريا إلى ليبيا وصولا إلى العراق، فضلا عن توتير علاقات تركيا مع معظم دول العالم ولاسيما أوروبا بعد توجهه إلى فرض سيطرته على المتوسط بحثا عن الطاقة.
وعليه مع دعوات معظم الأحزاب التركية والكردية إلى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، وخشية أردوغان من أن يصبح هذا الأمر خيارا واقعا، بات يرى أهمية الوصول إلى "قنديل"، إذ لا شيء يضاهيه قيمة في أي انتخابات مقبلة إذا تحقق له ذلك، فتحقيق هذا الأمر سيكون كافيا لحصد شعبية لم يحلم بها زعيم تركي من قبل، ولعله هنا يستذكر لحظة غزو الجيش التركي لشمال قبرص عام 1974، وهو الغزو الذي أنقذ حينها حزب رئيس الوزراء التركي الراحل بولند أجاويد من الانهيار، وجعل من أجاويد بطلا قوميا، ولعل أردوغان يفكر بهذا السيناريو مع "قنديل" لطالما أنه سيحقق له ما يسعى إليه في الداخل، حيث الحلم بتحقيق الجمهورية التركية الثانية عام 2023، والتي هي في الحقيقة إقامة السلطنة العثمانية الجديدة التي تعشعش في دماغ أردوغان وأفكاره وأيديولوجيته.
في انتظار نتائج العملية التركية الجديدة، والتي تقول التجربة التاريخية إنها لن تختلف عن سابقاتها، تبقى أسطورة "قنديل" تحمل تعقيداتها، وتحاصر أردوغان أكثر من محاصرته لها، فالثابت أن قنديل بات كابوسا يحاصر أردوغان بعد أن راهن عليه مرارا في تحقيق حلمه بالبقاء في السلطة والانتقال إلى حكم السلطنة كما يخطط بحلول عام 2023، وهو عام مرور ذكرى مئة عام على اتفاقية لوزان التي يريد أردوغان التخلص منها لصالح إعلان العودة الرسمية إلى الاتفاق الملي، الذي حضر أردوغان خرائطه وحدوده في درجه العثماني بقصره الأبيض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة