على الضفة الليبية تبدو الاستحقاقات قد بلغت حدودها القصوى، ولم يعد التعقل يقتضي الحلم بقدر ما يحتاج إلى الحزم.
منذ سنوات ليست بالقليلة أبداً تمارس مصر قدراً كبيراً من التعقل في التعامل مع الملفات الخارجية، وخاصة تلك المتعلقة بأزمات المنطقة العربية، تبنت الحياد بالقدر الذي يحمي مصالحها ويجنبها التدخل في شؤون الغير، ونزعت إلى السلمية في حلحلة خلافاتها مع خصومها بقدر ما تحتمل الدبلوماسية، لم تتبنَ القاهرة خطوة خارجية إلا بما تقتضيه الضرورة، وهذه الضرورة اليوم تطرح كل الخيارات لحماية الأمن القومي المصري من الخطر القادم عبر الحدود الليبية.
"لن نهدد بممارسة القوة العسكرية خارج الحدود إلا إذا كنا قادرين ومحقين في ذلك"، هذا فحوى رسالة الرئيس عبد الفتاح السيسي للداخل والخارج في تصريحاته الأخيرة، وتقدير الحق هنا لا يقوم على أساس الاستعمار كما تفعل تركيا في ليبيا، ولا على محاولة استعادة دور عربي لعبته القاهرة قبل عدة عقود، الأمر برمته يتعلق بحماية الأمن القومي المصري وقد بات الخطر وشيكاً.
يأخذ البعض على القاهرة أنها تأخرت بالإعلان عن استعدادها للجوء إلى قوة السلاح من أجل حماية أمنها وحدودها وشعبها، ولكن التوقيت يعني الكثير عندما تحاط بالخصوم، وتسير وسط حقل من ألغام التجاذبات السياسية التي تستثمر في أزمات المنطقة بكل انتهازية ولامبالاة بمصالح الشعوب.
المشهد العربي معقد إلى حدود تبدو لك فيه كل أزمات المنطقة مستحيلة الحل، وعندما تَمَسُّكَ تداعيات أي أزمة من هذه الأزمات لابد أن تكون حذراً في احتوائها، فأنت لا تريد التورط فيها، ولا يجدي أن تنأى بنفسك عنها وكأن شيئا لم يكن. الحياد المطلق في مثل هذه التقاطعات ما هو إلا مجرد وهم.
وسط هذه التقاطعات تعلم مصر جيداً أن للدول مصالح تسعى لها وقد تحارب من أجلها، وتعلم أيضا أن للدول تحالفات قد تتغير على وقع تغير مصالحها، لكنها تراهن على شعبها أولاً، وعلى الدول الصديقة التي تحافظ على تحالفها الاستراتيجي مع القاهرة لأن مصالحها ترتبط بها على المدى الطويل.
على الضفة الليبية تبدو الاستحقاقات قد بلغت حدودها القصوى، ولم يعد التعقل يقتضي الحلم بقدر ما يحتاج إلى الحزم، مصر تقف اليوم على أبواب الحرب لحماية حدودها من الإرهاب، وهي تمتلك الحق بذلك، على الأقل وفق المعايير التي سمح من خلالها المجتمع الدولي لتركيا بالتوغل في العراق وسوريا.
على الضفة الليبية تبدو الاستحقاقات قد بلغت حدودها القصوى، ولم يعد التعقل يقتضي الحلم بقدر ما يحتاج إلى الحزم.
لقد منحت تركيا لنفسها الحق بملاحقة الدواعش والأكراد ممن تعتبرهم تركيا إرهابيين داخل العراق وسوريا، وإن كان المجتمع الدولي قد سمح لها بتعريف الإرهاب وملاحقته في دول الجوار، فلا يجوز أن يكون حلالا لأنقرة وحراما على غيرها، حتى وإن كانت تركيا عضواً في حلف الناتو.
لم تقبل تركيا حتى بتسمية توغل جيشها داخل الدولتين العربيتين بالغزو أو التدخل الأجنبي، كانت ولا تزال تصر على وصف ما تفعله بحماية الأمن القومي، ورغم هذا تعارض حق القاهرة في مواجهة الإخوان والدواعش والقاعدة، وجميعهم يصنفون على قوائم الإرهاب في مصر ودول عدة حول العالم.
لم تكترث أنقرة لشرعية الحكومة في دمشق وبغداد من وجهة نظر الأمم المتحدة، عندما تعلق الأمر بأمنها القومي، ولكنها لا تسمح بتجاوز القاهرة لـما تعتبره "شرعية" حكومة طرابلس، هي ببساطة تبرر احتلالها لليبيا، لأن كذبة الأمن القومي لا تنفع على بعد آلاف الأميال من الحدود.
ليست مصر الدولة الوحيدة التي ترفض التدخل التركي في ليبيا، لكنها حتماً الأكثر تضررا جراء هذا التدخل، ليس لأن تركيا تريد أن تستحوذ على النفط الليبي وتسرق الذهب والأرصدة من المصرف المركزي الليبي، وإنما ببساطة لأن مصر تريد أن تبقي حدودها بعيدة عن الإرهاب الذي بدأ نظام أردوغان بنشره وتغذيته في شمال أفريقيا عبر البوابة الليبية، الدواعش والمتطرفون الذين جاءت بهم الطائرات التركية لم يأتوا مبشرين بالسلام، ولا يدعون إلى حكم مدني ديمقراطي علماني.
على الرغم من ذلك، تُبقي مصر الباب مفتوحاً أمام الأتراك للقبول بالحلول السلمية، هي تدرك جيداً الكلفة العالية للخيارات العسكرية، تماماً كما تدرك كلفة التغاضي عن أمنها القومي، قد يختلف البعض مع تقدير مصر للخطر المحدق بحدودها الغربية بسبب النزق التركي، ولكن ذلك لا يلغي حقيقة وجود هذا الخطر أصلاً، ولا يلغي أيضاً حقيقة أن القاهرة لم تُصّعد في الخلاف مع أنقرة إلا بقدر ما ظهر من تعنتها ورفضها لاحتواء مخاوف المصريين في حماية أمن ومستقبل بلادهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة