لم تكن مصر يومًا مهدِّدةً لجارٍ، بل عرفها التاريخ طوال قرونه وعقوده، دولة مسالمة، تسعى بالخير لمَنْ حولها.
وكأنّ مصر المحروسة باتت على موعد مع قدر مقدور في زمن منظور من شهر سبتمبر-أيلول من كلِّ عام، ففيه تحاول قُوَى الشر أن تنشر سحابات سوداء فوق أرض الكنانة، إلا أنّها وأمام الحكمة الراسخة تحت الجلد المصريّ منذ سبعة آلاف سنة، ترفض أن تفتح لها الباب، لتظلّ خلفه تسعى جاهدةً لتفكيك النسيج المجتمعيّ المصريّ، لكنّها تفشل دومًا وأبدًا.
يحتاج المشهدُ المصريّ قراءةً عميقة ورصينة، أبعد بكثير جدًّا من مجرّد النظر إلى ما هو قائم على سطح الأحداث، سيّما وأنّ الجميع يدرك أنّ هؤلاء القِلّة الخارجة على مصر المحروسة، والذين يحاولون إشعال نيران الفتنة في صدور المصريّين، ليسوا إلا بيادق في أيادي مَن يحرّكهم ويتلاعب بهم، وعمّا قريب سوف يسلّمهم كالكباش للنَّحْر يوم المحرقة.
السؤال المثير للتأمّل، وللمرّة الألف: لماذا كلّ هذه اﻷحقاد والكراهية لمصر؟
منذ عامٍ تحديدًا، انطلقتْ نفس الدعوات الكارهة المطالِبة جموعَ المصريّين بالنزول إلى الشوارع، وتخضيب الأيادي بالدماء، غير أنّ المصريّين الذين قُدِّرَ لهم بالفعل النزول إلى أرض مطار القاهرة وما حولها، وقفوا صفًّا واحدًا في انتظار رئيس مصر المنتصر دومًا عند عودته من نيويورك بعد أن ألقى كلمة مصر في اجتماعات الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة.
لا ينفكّ المحرّك الرئيس للأحداث أن يتابع محاولاته، حتّى وإن كان يدرك فشلها المستقبليّ والمُقدَّر تقديرًا، إلا أنّه ومع ذلك يراهن على بعضٍ من أعمال الطابور الخامس من بقيّةٍ باقية، لا تزال تنفث سمومها في ربوع المحروسة.
متلازمة سبتمبر تكشف لنا أمرَيْن: الأوّل أنّ هناك دولاً في المنطقة، وفي المقدّمة منها تركيا وقطر، تحمل حتّى الساعة، وستظلّ على هذا النحو طالما بَقِيتْ قيادات تلك الدول على حالها الحاضر، كراهيةً عميقة لا تداريها أو تُخفيها، ولدى الدوحة وأنقرة مخزونٌ من العداء ااستراتيجيّ إن جاز التعبير، يهدُفُ إلى وضع العصا في دواليب مصر الماضية قُدُمًا في اﻵفاق، وإن كان اﻷمر، وكما يُقالُ باللغة العاميّة المصريّة: "عَشَمْ إبليسْ في الجَنّة"، في دلالةٍ لا تُخطئُها العينُ لاستحالة اﻷمر.
على أنّ علامة الاستفهام اﻷشدّ سبرًا للأغوار: "هل قطر وتركيا فاعلان أصيلان فيما تتعرَّض له مصر، أم أنّهما ليسا أكثرَ من ستارٍ تتخفّى وراءَهُ القوَّة الإمبرياليّة التقليديّة التي تُناصِب مصرَ العداءَ منذ زمان وزمانَيْن، وتَتحَيَّن الفرصَ لضرب أيّ مشروع نهضويّ حقيقيّ لها؟
التاريخ يُخبِرنا أنّ هناك مَن يترصَّد لاستفاقة مصر التاريخيّة منذ زمن بعيد جدًّا، والتجربة التاريخيّة تدلِّل على مصداقيّة ما نقول به، وإلاّ فما معنى أن يخفق مشروع محمد علي لتجديد مصر في منتصف القرن التاسع عشر، وقد جعل منها قوّة عسكرية يُشارُ لها بالبَنَان، صاحَبَتْها طفرةٌ اقتصاديّة، تجاريّة وزراعيّة، هدفها الرئيس هو استقلال مصر.
الأمر عينه تكرَّرَ مع الثائر أحمد عرابي، والذي وقف في وجه الخديوي توفيق، ومن وراء اﻷخير اﻹنجليز، ثمّ مع سعد زغلول، وصولاً إلى تحطيم مشروع العدالة الاجتماعيّة والنهضة الصناعيّة والزراعيّة لجمال عبد الناصر، كلّها تعرضت لشتّى أنواع الدسائس والمؤامرات، تاليًا افتعال المعارك لتحطيم الجيش المصريّ، عماد وركيزة اﻷمّة المصريّة من زمن رمسيس الثاني إلى أوان عبد الفتاح السيسي.
تبدو اليوم مصرُ ناهضةً من وسط ركام عقود طوال، والناظر إليها يدرك أن هناك ثورةً أخرى تجري في الدولة، ليست ثورة الخائبين والذين اصفَرّتْ وجوهُهم، بل ثورة بناء ونماء، تشييد وتعمير، تعليم وتهذيب، وبمحازاة ذلك اهتمامٌ ببناء مصر لقُوّاتها المسلَّحة الباسلة، والتي تحمي الأرض وتصون العرض، وقد أضحتْ في مَصافّ العشر قوى الكبرى عسكريًّا حول العالم.
لم تكن مصر يومًا مهدِّدةً لجارٍ، بل عرفها التاريخ طوال قرونه وعقوده، دولة مسالمة، تسعى بالخير لمَنْ حولها، غير أنّ مواطنيها على بساطة قلوبهم، وذكاء عقولهم يتحوّلون إلى وحوش ضارية في ميادين الوَغَى، غير عابئينَ بأيّ حسابات سوى كرامة مصر والمصريّين.
رفض المصريّون العامَ الماضيَ والأعوام التي سبقتْه ابتلاعَ الطُّعْم؛ فقد أدركوا أنّ من لا يريد لمصر الخيرَ كُثُر، موزَّعِين بين قوى إقليميّة وأخرى دوليّة يسوؤها أن تعدل مصر الطباع وتغيّر اﻷوضاع، وتجعل ميزانَ القوّة الأخلاقيّة والوضعيّة يميل إلى كفَّتِها.
على أنّ هذا لا ينفي أنّه لا تزال هناك بقايا من طابور خامس في الداخل المصري، لن ينصرف بسهولة أو يُسْر، بل سيظلّ على عِنَاده الدوجمائيّ طويلاً جدًّا. هؤلاء هم مَنْ يقدّمون المبرّرات الواهية لجماعات الخونة في الخارج، أصحاب الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة، والذين لا يمتلكون من أمرهم شيئًا، إذ هم أُجَراء عند أسياد الشرّ في الحال، ولا يظنّ المرءُ أن الاستقبال يمكن أن يطول بهم.
ولعلّه من الأهمّيّة بمكانٍ الإشارةُ إلى أنّ هذا الطابور الخامس يحتاج إلى آليات مبتكَرة، وأفكار من خارج الصندوق لمجابهته، مع اﻷخذ في عين الاعتبار أنّ هناك قوى دوليّة تحرِّكُه، واعتبارات أمميّة ولو شريرّة تزخم أعضاءَه ﻷهداف لا تغيب عن أعين الناظر، وعواصم غربيّة تتشدّق بحقوق الإنسان، فتفتح أراضيها لمن امتلأتْ قلوبُهم بالعداوات وعقولهم بالمؤامرات، وجميعهم مطلوبون للعدالة جَرّاء ما اقترفت أياديهم.
أخفقتْ متلازمةُ سبتمبر هذه المَرّة بسبب الوعي المجتمعيّ المصري، القادر على طرح أيّ إشكاليّات داخليّة على مائدة الحوار الوطني، والتوصُّل إلى حلول عقلانيّة ومنطقيّة لها، وليس عن طريق محاولة هَدْم الدولة، الأمر الذي يسكن قلوب غُلاة المتطرِّفين.
والمقطوع به أنّ أيّ دعوات مشابهة سيكون مصيرها هو اﻹخفاق الذريع عينه، فالمصريّون اليومَ في حالة انتباه ونوبة صحيان لدولة تأخذ مكانتها الحقيقيّة بعد تأخّر طويل وسط اﻷمم، ولهذا فليس هناك مجال لفكرة "القوى المُعطِّلة"، لرسم الخطوط ونسج الخيوط، وبخاصّة في ظلِّ عالم مضطرب لا يرحم، عالمٍ ينوء بالصراعات، و"جيوبوليتيك" متغيّر، وخرائط أمميّة وقارّيّة يُعادُ رسمُها.
مصرُ اليومَ على قلبِ رجلٍ واحد، ولا مكانَ فيها إلا لكلّ يد تمتدّ لإضافة مدماك جديد من مداميك المجد واستنهاض القُوَى الخفيّة في الذات المصريّة.
رعى اللهُ الكنانةَ في الحِلّ والترحال، وحَفِظَ جيشَها وشعبَها وقيادتَها من كلّ خطر وكلّ سوء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة