الشاهد أن في روح الإسلام من السماحة الإنسانية ما لا يملك أي منصف أن ينكره أو يراوغ فيه، وهي سماحة مبذولة للمجموعة البشرية كلها.
وقت ظهور هذه الكلمات للنور يكون الحجيج بالملايين قد وقفوا فوق جبل عرفات، يجددون إيمانهم بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وقف الجميع سواسية كما ولدوا، من دون تمايز طبقي أو عرقي، في مشهد من التسامح والمصالحة بين البشر جل أن يدرك .
على أن السؤال الذي شاغب عقل كاتب هذه السطور: هل التسامح في الإسلام مقتصر على المسلمين فقط أم أنه يمتد إلى غيرهم من أهل الكتاب، وتاليا يتجاوز هؤلاء وأولئك إلى بقية الإنسانية؟
يمكن القطع بأن قيم التسامح وثقافته في العصور العربية والإسلامية الزاهية، تحولت إلى قيم أخلاقية معاشة، لا شعارات جوفاء مرددة، وتمثلت تلك الحضارة في قدرتها على تحمل الرأي والرأي الآخر، والتعايش في سياق الاختلاف والوئام الإنساني
ليس غريبا أو عجيبا أن يفكر مسيحي عربي على هذا النحو، ذلك أن المسيحيين العرب قد شاركوا في صنع الحضارة العربية قبل الإسلام، وعاشوا فاعلين مجددين ونشيطين في صدر الحضارة الإسلامية عينها، فقد ترجموا العلوم اليونانية وآدابها إلى اللغة السريانية ومنها إلى العربية، ومن هناك أخذها الأوروبيون إلى اللاتينية وكانت لهم بمثابة فجر تاريخ جديد.
لم تميز الحضارة الإسلامية في عظمتها بين البشر على أساس ديني، فكان بلاط هارون الرشيد، على سبيل المثال، يعج بالعلماء والأطباء والفلاسفة من اليهود والنصارى، ويقومون على أعمال كثير من الوزارات المهمة، فهل كان لذلك كله أساس قرآني يوضح أن التسامح ركن ركين من أركان الإسلام، وبعيدا كل البعد عن الفرق المتزمتة التي تقوم على تحليل الآيات القرآنية حرفيا بعيدا عن محيطها التاريخي والاجتماعي، سيما وأن النصوص الدينية تمنح "احتمالات للمعنى وليس حتميات"، ويعتمد فهمها على المعنى الأخلاقي الذي يمنحه القارئ للنص.
الشاهد أن في روح الإسلام من السماحة الإنسانية ما لا يملك أي منصف أن ينكره أو يراوغ فيه، وهي سماحة مبذولة للمجموعة البشرية كلها لا لجنس فيها ولا لاتباع عقيدة معينة، وإنما هي للإنسان بوصفه إنسانا في حد ذاته خلقه الله وكرمه.
أسس التسامح العقلاني والإيماني واضحة في عمق الآيات القرآنية "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"، وآية أخرى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"، وثالثة "لكم دينكم ولي دين".
من هنا نستطيع أن نحدد "مفهوم التسامح في الإسلام"، وفي المقدمة منه التسامح الديني الذي يعني أن يكون لكل فرد في الأمة حق في أن يعتقد ما يراه حقا، وأن تكون له الحرية في تأدية شعائر دينه كما يشاء، وأن يكون أهل الأديان المختلفة امام قوانين الدولة سواء.
مثير جدا حال ومآل الأمة الإسلامية وكيف تغيرت توجهات بعضها من أولئك النفر الذين ذهبوا في طريق القتل وسفك الدم والترويع لمجرد الاختلاف الفكري أو العقدي مع الآخر، حتى ليظن المرء أنهم طائفة بعيدة كل البعد عن المسلمين شكلا وموضوعا، والتساؤل أين يمكن للعالم تصنيف وتوصيف هؤلاء وسط أمجاد العالم الإسلامي في عصوره الذهبية؟
لقد أظهر أئمة وفقهاء العالم الإسلامي في زمن المد الحضاري الخلاق أريحية واسعة وعريضة للتسامح وقبول الآخر، تلك الشعارات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وكأن تلك المفاهيم كانت بعيدة بشكل أو بآخر عن عمق المفهوم الإسلامي.
يمكن القطع بأن قيم التسامح وثقافته في العصور العربية والإسلامية الزاهية، تحولت إلى قيم أخلاقية معاشة، لا شعارات جوفاء مرددة، وتمثلت تلك الحضارة في قدرتها على تحمل الرأي والرأي الآخر، والتعايش في سياق الاختلاف والوئام الإنساني، وهنا يعن لنا أن نستحضر كلام الإمام أبي حنيفة النعمان: "كلامنا هنا رأي فمن كان عنده خير منه فليأت به"، فيما ذهب الإمام الشافعي للقول: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بكلام أفضل مما قلناه قبلناه".. كانت هذه هي مفاتيح نهضة العرب والمسلمين في زمن الازدهار لا الانحدار.
والشاهد أنه إذا كان الظلم واللاعدل وجه من وجوه الإنسانية، فإن غياب التسامح من خريطة العالم الإنساني قاد إلى حربين عالميتين كبيرتين في القرن الماضي، وعشرات وربما مئات الحروب المحلية والإقليمية، وهذا ما يستلزم منا في زماننا التركيز على قيمة التسامح كونها ضرورة وجودية في عالمنا المعاصر، وبخاصة بعد أن سعى البعض إلى تأجيج نيران الاختلافات، في حين يظل الاختلاف والتعدد سنة ربانية في خلقه وكونه.
يمكن القطع بأن التسامح الديني الذي عرفته الحضارة الإسلامية يعد أرضية قوية إيجابية خلاقة لبناء المجتمع المدني ولإرساء قواعده، فالتعددية والديمقراطية وحرية المعتقد وقبول الاختلاف في الرأي والفكر وثقافة الإنسان وتقدير المواثيق الوطنية واحترام سيادة القانون، خيارات استراتيجية وقيم إنسانية ناجزة لا تقبل التراجع ولا التفريط.
التسامح الذي عرفته الحضارة الإسلامية قبل أربعة عشر قرنا يعد اليوم عاملا أساسيا في بناء المجتمع المدني الحديث، وطريق للعودة إلى روح الإنسانية الحقة لا المنحولة.
الأديان بحكم انتمائها إلى السماء لا تأمر إلا بكل ما هو سمح وخير وحق وصالح، ولا تدعو إلا إلى البر والمودة والرحمة والإحسان، ولا توصي إلا بما يؤول إلى السلم وشيوعه، والأمن وذيوعه، وما كانت يوما في حد ذاتها عائقا أمام التبادل والتلاقح والتثاقف، ولم تكن سدا أو حدا ضد العيش الواحد والتعايش المشترك والتعارف والحوار والجوار.
العائق يكمن في أذهان الذين يتوهمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، ويستغلون الأديان في التلاعب بحياة الناس وأقدارهم ومصائرهم، تلك المهمة التي أبى الله تعالى أن يمنحها لأنبيائه الأخيار.
أحلى الكلام: كل عام وأنتم في تسامح ومودة وخير وحب ورحمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة