أينشتاين وأوبنهايمر.. الخلاف في العلم لا يفسد للود قضية (خاص)
في مشهد مفعم بالحيوية من فيلم "أوبنهايمر"، يحاول ألبرت أينشتاين، مواساة زميله روبرت أوبنهايمر، بعد اتهام الأخير بعدم الولاء لأمريكا بسبب معارضته لإنشاء القنبلة الهيدروجينية، ونتيجة لذلك، يفقد في عام 1954، منصبه كمستشار للحكومة الأمريكية.
ويحدث بين العالمين نقاش، إذ كان أينشتاين مستاء من أن تكون هذه هي المكافأة التي تمنحها الحكومة الأمريكية لأوبنهايمر بعد السنوات التي قضاها في تطوير القنبلة الذرية التي أنهت الحرب العالمية الثانية، وأن ما حدث مع أوبنهايمر يجب أن يدفعه إلى أن "يدير ظهره" لأمريكا، كما فعل أينشتاين مع وطنه ألمانيا، في موقف شبيه، غير أن أوبنهايمر المولود في مدينة نيويورك، يرد "اللعنة، أنا أحب هذا البلد".
وكما تباينت مواقف العالمين في لحظات الضعف، بين من اختار أن يدير ظهره لبلده، وبين من تمسك بها، رغم ما تعرض له من ظلم، فإن آراء الاثنين العلمية، كانت هي الأخرى على طرفي نقيض، لكن ذلك أيضا، لم يفسد الود والعلاقة الإنسانية بينهما، كما كشفت أحداث الفيلم.
ويقول ميراب جوجبراشفيلي، أستاذ الفيزياء بجامعة ولاية "جافاخيشفيلي تبليسي" بجورجيا في تصريحات لـ"العين الإخبارية"، إن "أساس الخلاف بين العالمين، هو تشكيك ألبرت أينشتاين في نظرية الكم أو ما يطلق عليه (التشابك الكمي)، التي كان أوبنهايمر من المؤمنين بها".
التأثير الشبحي للتشابك الكمي
والأساس الذي تقوم عليه نظرية "التشابك الكمي"، هو أنه إذا كان هناك جزيئان في حالة من التشابك الكمي، فإن قياس أي خاصية للجزيء الأول، سيحدد ما سيكون عليه الجزيء الآخر، والمثال الأشهر لشرح تلك النظرية، هو أنه "إذا امتلكنا زوجين من القفازات كل منهما في صندوق، وكانا في حالة من التشابك الكمي، ووضعنا أحدهما على قمة إيفرست، والآخر فوق سطح القمر، فحين نفتح أي صندوق منهما، لو كان لقفازٍ يخص اليد اليمنى، فعلى الفور الآخر يخص اليسرى، وقبل أن نفتح الصندوق كان كلاهما يمينا ويسارا في نفس الوقت".
ويقول جوجبراشفيلي: " بالنسبة لألبرت أينشتاين، فإن هذا التشابك الكمي ما هو إلا ضرب من العشوائية، وإن حدثت ظواهر تؤكده، فهي في رأيه لا تعدو أن تكون تأثيرا شبحيا".
ويضيف أن "السبب الذي كان يدفع أينشتاين لتبني هذا الرأي، هو إيمانه الشديد بالسببية، وأنه ما من شيء يحدث بالصدفة، وأنه من المؤكد أن هناك طريقة للتنبؤ بأي الجزيئين سيدوران في أي اتجاه من بداية وجودهما، وليس للأمر صلة بعملية القياس".
وكانت هذه الآراء الفيزيائية للرجل الذي كان اسمه مرادفًا لـ"العبقرية" في رأي أوبنهايمر وعلماء آخرين، لا تعدو أن تكون بلغة العصر "موضة قديمة"، كما يقول محمود البنا، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة المنيا (جنوب مصر) لـ"العين الإخبارية".
وكان أوبنهايمر ينظر إلى أينشتاين على أنه "قديس حي للفيزياء، وليس عالما عاملا"، و كتب أوبنهايمر في عام 1965 ، في محاضرة نُشرت لاحقًا في "نيويورك ريفيو أوف بوكس" أنه "في السنوات الأخيرة من حياة أينشتاين، الخمسة وعشرين عاما الماضية، خذلته تقاليده إلى حد ما".
ويقول البنا إنه "على الرغم مما يبدو من وجود فجوة علمية بين قديس الفيزياء والعلماء الأحدث، فإنهم يدينون لنظرية (النسبية العامة) التي وضعها أينشتاين بالفضل في وصف (الثقوب السوداء) بحثيا، قبل أن تؤكدها الأرصاد الفلكية لاحقا".
ويضيف أن أينشتاين لم يكن حقيقة يؤمن بالثقوب السوداء، لكن نظريته التي تؤكد أن المكان والزمان يمكن ضمهما معا بفعل الجاذبية، هي التي وضعت الأساس النظري لتفسير الثقوب السوداء".
ومن المفارقات أن يكون أوبنهايمر، الذي كان يرى أن أينشتاين خذلته تقاليده، هو صاحب أشهر بحث عن الثقوب السوداء.
نقطة مفصلية في تاريخ دراسة الثقوب السوداء
ونظرية النسبية العامة تفسر الجاذبية التي يمكن رؤيتها بين الكتل، باعتبارها ناجمة عن انحناء في نسيج الزمان والمكان (الزمكان) رباعي الأبعاد، بسبب وجود أجسام ضخمة، غير أن الجاذبية في الثقوب السوداء تشتد بالقرب من المركز إلى حد تعجز معه معادلات آينشتاين عن تفسيرها، وهو ما حاول أوبنهايمر تفسيره في البحث الذي نشر في غرة سبتمبر/أيلول عام 1939، في نفس اليوم الذي غزا فيه الجيش الألماني النازي بولندا، مما تسبب في إشعال فتيل حرب غيرت مجرى تاريخ العالم إلى الأبد.
ويوصف هذا البحث الذي حمل عنوان "انكماش الجاذبية المستمر"، ونشره أوبنهايمر برفقة عالم الفيزياء هارتلاند سنايدر، بأنه "نقطة مفصلية في تاريخ دراسة الثقوب السوداء"، حيث تنبأ فيها بالانكماش المستمر للنجم تحت تأثير حقل الجاذبية الخاص به، مما يتسبب في إنشاء جسم يحتوي على قوة جذب شديدة لا يستطيع حتى الضوء اختراقها، وكانت هذه هي النسخة الأولى من المفهوم الحديث للثقب الأسود، الذي بات يعرف بأنه جسم فلكي ضخم كثيف لا يمكن اكتشافه إلا عن طريق جاذبيته.
مواقف إنسانية بين أينشتاين وأوبنهايمر
ومع ما يبدو، من اختلاف بين مدرسة علمية عتيقة يمثلها أينشتاين، وأخرى أكثر حداثة يمثلها أوبنهايمر، فإنهما كانا صديقين يستمتعان بصحبة بعضهما، حتى إنه في عام 1948، عندما عرف أوبنهايمر بحب أينشتاين للموسيقى الكلاسيكية، ومعرفة أن الراديو الخاص به، لا يمكنه استقبال البث في نيويورك للحفلات الموسيقية من قاعة كارنيجي، رتب أوبنهايمر تركيبا هوائيا على سطح منزل أينشتاين في (112 شارع ميرسر)، وتم ذلك بدون علم أينشتاين.
وبعد سنوات، عندما تم استهداف أوبنهايمر بسبب معارضته لإنشاء القنبلة الهيدروجينية وتجريده من منصبه، كان أينشتاين يقف بقوة إلى جانب زميله، حيث كان يقول للمقربين منه إن "المشكلة مع أوبنهايمر هي أنه يحب امرأة لا تحبه (يقصد حكومة الولايات المتحدة)".
وكان أينشتاين ذكيا بما يكفي للحفاظ على خصوصية هذه الآراء، لكنه علنا، أعرب عن دعمه لأوبنهايمر بطريقة أكثر قبولا، عندما قال للصحافة "أنا معجب به ليس فقط كعالم، ولكن أيضا كإنسان عظيم".