الإليزيه.. تاريخ فرنسا في ردهات قصر
على بساط أحمر ممتد إلى مدخله، يستقبل الرئيس الفرنسي زوار فرنسا الكبار، مشهد تقليدي يغادر اعتياديته اليوم الإثنين، حيث استقبل ساكن القصر إيمانويل ماكرون ضيف بلاده الكبير الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات في زيارة تاريخية.
وفي ردهات الإليزيه يعاين الزائر تاريخ قرون ثلاثة شكّلت انعطافات كبرى في تاريخ بلد النور.
ويكفي أن تعرف مثلا أن بين جنبات القصر وقع الإمبراطور نابوليون بونابرت على صك التنازل عن العرش في "الصالون الفضي" الذي ما زال شاهدا على تلك اللحظة، قبل أن يغادر باريس.
لحظات درامية لتاريخ مجيد شكل جانبا هاما من العصر الحديث، كان من بين أكثر حلقاتها إثارة أن يتحول القصر إلى مقر إقامة إمبراطور روسيا ألكسندر عقب احتلال باريس، ليقيم فيه من بعده دوق ولينغتون الإنجليزي، أشهر أعداء بونابرت الذي كان له الفضل في هزيمته في واترلو.
لكن حكاية القصر كانت قد بدأت قبل هذا التاريخ بأكثر من قرن حينما اشترى الكونت هنري لويس قطعة أرض في باريس وشيد عليها قصرا لسكناه عام 1718،وقد احتاج الأمر 4 سنوات لإتمام تشييده وحين توفي الكونت عام 1753 جرى بيع القصر إلى جان أنتوانيت بواسون مركيزة بومبادور.
ويعود الفضل إلى مركيزة بومبادور في وضع أول اللمسات على الإليزيه حينما كلفت المهندس المعماري لاسورانس بإعادة تصميم المجلس الرسمي والطابق الأول والحديقة، فصمم الرواق المعمد عند مدخل المبنى، وسياج الشجيرات.
وقبل وفاة المركيزة، أوصت بالقصر إلى لويس الخامس عشر، الذي جعله في البداية مقرًا للسفراء فوق العادة في باريس بقرار ملكي، ثم حوِّل إلى مكان لعرض الصور الزيتية للمرافئ الفرنسية.
وبعد نحو نصف قرن قرر التاجر نيكولا بوجون شراء القصر، وأجرى عددًا من التغييرات عليه فزاد في جناح الشقق الصغيرة، حتى تصل إلى شارع الشانزلزيه مشكلاً زاوية قائمة.
وعاد القصر ليكون سكنا للسفراء فوق العادة في زمن لويس السادس عشر، لكنه قرر بيعه عام 1787، إلى ابنة عمه، دوقة بوربون.
وكانت دوقة بوربون من بين أكثر قاطنيه سوء حظ فبعد 6 سنوات فقط من امتلاكها للقصر ألقى الثوار القبض عليها وخصص الإليزيه لاستخدامات أخرى متعددة، حتى تقرر أن يكون مقرًا لهيئة نقل القوانين والأنظمة، ودارًا للمطبعة التي تتولى طبع النشرة القانونية.
عامة الشعب
لم تقض الدوقة سنوات طويلة في السجن، فمع حلول عان 1795 أطلق سراحها وبعد عامين فقط استعادت ملكية القصر إلا أن حظها العاثر تواصل وقد اضطرت بسبب ضائقة مالية إلى تأجير الدور الأرضي، وهو ما سمح للتاجر هوفين الذي كان بين سكان القصر المستأجرين، أن يدخل التاريخ الحافل لبلاده.
وأعد هوفين غُرف الرسم والحديقة للرقص لعامة الناس، فقام ببناء رواقين مسقوفين على جانبي المدخل، ليسهل دخولهم إلى الصالون الرئيسي الكبير، وخلال هذا الوقت أخذ القصر اسم الإليزيه.
ثم عرضت الدوقة وهي في منفاها في إسبانيا القصر للبيع بالمزاد العلني، فاشترته عائلة التاجر هوفين، وأجرت بعض أجزائه سكنًا للناس ثم باعت ابنة التاجر هوفين القصر في عام 1805، لتسدد ديونها، فاشتراه جواكيم موراه مارشال فرنسا، وكلف المهندسَين بارتليمي فينيون وبارتليمي تيبو، بتجديده، وإحداث التغييرات اللازمة له.
وشملت التعديلات زيادة تصميم كنيسة مادلين، وبناء بيت السلم الكبير على يسار المدخل الرئيسي وتصميم قاعة طعام ضخمة في الجناح الغربي، فيما حول رواق الصور إلى قاعة رقص، وهي القاعة المسماة الآن صالون موراه.
نابوليون في القصر
وبعد أن أصبح موراه ملكًا على مملكة نابولي عام 1808، أعطى لنابليون كل ممتلكاته في فرنسا، بما في ذلك قصر الإليزيه، وغُير اسم الإليزيه، إلى اسم الإليزيه النابليوني. وأصبح تاريخ القصر، من هذه الفترة، ممتزجًا بتاريخ فرنسا نفسها.
وأقام نابليون في الإليزيه للمرة الأولى في مارس/ آذار من عام 1809 قبل أن يمنحه للإمبراطورة جوزفين زوجته عقب طلاقهما، ثم استعاده في عام 1812.
وبقي الإليزيه شاهدًا على تاريخ الإمبراطورية الفرنسية إلى ساعاتها الأخيرة، حيث وقع نابليون تنازله عن العرش فيه، وعلى وجه التحديد في غرفة البودوار الفضية.
وفي شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1848، أطلق على القصر اسم "قصر الإليزيه الوطني"، ليصبح مقر إقامة رئيس الجمهورية.
وعمد الأمير لويس نابليون، ابن أخي الإمبراطور نابليون الأول إلى تجديد القصر واستدعى لذلك المهندس المعماري الشهير جوزيف أوجين لاكروا.
والقصر الحالي هو ما تركه لاكروا الذي انتهى من أشغال التجديد والتزيين في عام 1867.
واستعاد القصر صفته الرسمية مقراً لإقامة رؤساء الجمهورية منذ الجمهورية الثالثة وحتى اليوم. لكنه أُغلق ما بين 1940 و1946 خلال الاحتلال الألماني لفرنسا.
وبعد التحرير، استضاف الإليزيه 8 رؤساء جمهورية هم: الجنرال ديغول، وجورج بومبيدو (الذي مات فيه كما اثنين آخرين من سابقيه)، وجيسكار ديستان، وفرنسوا ميتران، وجاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، وفرنسوا هولاند، وأخيراً إيمانويل ماكرون.