يهتم حبيب الصايغ بالتفاصيل اهتماما كبيرا، ربما مبالغا فيه أحيانا، لأن عمله الصحفي الطويل جعله يدرك تأثير الكلمة على القارئ والمستمع
ما الذي يمكن أن تكتبه عن صديق غادر للتو دون تمهيد؟! ما الذي يمكن أن تقوله عن شاعر كبير قطع تواصله بشكل مفاجئ، وقد كانت بينكما مشروعات للقاءات وفعاليات واتصالات؟ وكيف يمكنك أن تعبر عن شعورك بالهزيمة لأن الصديق قرر -منفردًا- أن يمضي ويتركك وحيدًا، بينما كنت تشاغبه منذ ساعات؟!
في السنوات الأربع الأخيرة اقتربت كثيرًا من الشاعر الإماراتي الكبير حبيب الصايغ، الإماراتي هنا لأنه كان يصر أن تلحق باسمه دائما، بينما هو أحد أهم الشعراء في جيل السبعينيات العربي. اقتربت منه حينما شاء أن أعمل معه في إدارة الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، في الساعة نفسها التي انتخب فيها أمينًا عامًّا في أبوظبي، ديسمبر 2015، من وقتها والمشاورات مستمرة، والمناوشات والأحلام كذلك، فقد كان محبًّا للحياة، لا يحب المتجهمين، ويتشاور باستمرار مع شركائه، ويحرص دائمًا على إرضاء الفرقاء والتوفيق بينهم.
لن أستطيع أن أنعى حبيب الصايغ؛ لأنه معي الآن، وسيظل أخًا وصديقًا وشاعرًا قبل شراكة العمل التي جمعتنا، لن أستطيع أن أكتب عبارات رثاء محفوظة ترددها الذاكرة العربية في تلك المناسبات، لكنني سأقول: إن حبيب الصايغ أحب الحياة كما ينبغي لها وله، وعاش كما يحب
كنت قرأت شعره ووقفت طويلًا أمام بعض قصائده، خصوصًا تلك التي يرثي فيها بدر شاكر السياب بمناسبة مرور خمسين عامًا على غيابه الجسدي، كان يحب تلك القصيدة وألقاها في أكثر من محفل:
"بعد خمسين عاما من الموت
ماذا يريد المدثر بالشعر؟
ماذا يشخبط بالضوء في عتمة القبر؟
مرت سحابته بين عينيه فاستيقظ الدود:
قال أحاور معناي من بعد خمسين عامًا
فليمد الظل في موضع الظل
حاول أن يستعيد الكتابة لكنه لا يحسن الكناية عن نفسه
وله سبب كامن في ماء السنين
الذي يتوالى على الموت كالدمع
دمع القلوب".
لم يكن حبيب الصايغ يعلم أنه سيكون بجوار بدر شاكر السياب بعد وقت قليل، وبجوار البياتي وصلاح عبدالصبور ونازك، والشعراء المعاصرين الذين أثروا حياتنا بقصائدهم!
حين يصعد شاعر لا يعرفه على منصة، يسألني همسًا: "يقال: إن الشعراء أربعة/ فشاعر يجري ولا يُجرى معه/ وشاعر يخوض وسط المعمعة/ وشاعر لا تشتهي أن تسمعه/ وشاعر لا تستحي أن تصفعه"، ويسألني: أيهم هذا الشاعر؟ حبيب الصايغ يحب الشعر ويغار عليه، ويحب الشعراء، لهذا حرص على أن يوجه رسالة لهم في الحادي والعشرين من مارس من كل عام، في اليوم العالمي للشعر، وقد اختار أن تكون رسالته الأخيرة وصية، كأنه كان يرى ما لا نراه، أراد أن يوصي بشعراء قصيدة النثر، رغم أنه أحد أهم كتاب التفعيلة منذ السبعينيات من القرن العشرين.
يهتم حبيب الصايغ بالتفاصيل اهتمامًا كبيرًا، ربما مبالغًا فيه أحيانًا، لأن عمله الصحفي الطويل جعله يدرك تأثير الكلمة على القارئ والمستمع.. يدرك أن هذه الكلمة يمكن أن تتسبب في غضب أحدهم، وأن استبدالها بأخرى لن يضر المعنى، بينما تسعد من يقرأها، شاعر هو في تفاصيل حياته اليومية، يضع لمسة هنا ولمسة هناك ليجعل الفضاء الذي يحيطه جميلًا، يغضب بعفوية ويصفو بمحبة، ويحرص على الاتصال بشكل يومي، أكثر من مرة، ويطيل الحديث ما شاء كي يصل لمبتغاه، وفي اللقاءات المباشرة يمكنك أن تقرأ انفعالاته ببساطة، دون أن يتحدث، ومن السهل أن تقنعه بأي شيء سيكون عليه أن يتحمل تبعاته من وقته وجهده.
منذ سنوات قليلة كان يصعد على المنصة جريًا، بقميص فاتح من الكتان وبنطلون من الجينز، يقرأ شعره بحب، أكثر شاعر رأيته يتوحد بشعره ويحبه، وحين يصعد ينبه إلى أنه سيطيل، يقول: ما قطعت هذه الأميال لكي أقرأ خمس دقائق! لكنه حين يبدأ لا تشعر بالوقت، فقط تنشغل بمتابعة انفعالاته، تصعد معه وتهبط وهو يلوح بيده وينغم صوته علوًا وانخفاضًا، ويحرص في النهاية على أن يعرف انطباعي، كأنه لم يقرأ قبلًا!
ما الذي يمكن أن تشيّع به صديقًا أصر على مساندتك في أكثر أوقاتك ضيقًا؟
ما الذي يمكن أن تقوله إذا كانت المواقف أكثر من أن تحصى؟
ولماذا يكون علينا دائمًا أن نفارق الأصدقاء ونودع الشعراء الشعراء؟!
لا يمكن لمثلي أن يكتب عن حبيب الصايغ باعتبار أنه لم يعد هنا، لأنني بالفعل لن أستوعب أنه غاب، كما أنني أوقن أن الشعراء لا يرحلون، الشعراء موجودون في قصائدهم ومواقفهم، ومواقف حبيب الصايغ كانت شديدة الوضوح باتجاه مساندة العروبة وقضاياها، حتى اللحظة الأخيرة، فقد أرسل لي يوم الأحد -قبل يومين فقط- مقاله في جريدة الخليج بعنوان "مع بدء السباق الوطني.. مقدمات ضرورية"، يتحدث عن بدء تسجيل المرشحين لانتخابات المجلس الوطني الاتحادي في الإمارات، وأن ما يحدث يعد جزءًا من تقدم ونهضة وطنه، فبدء السباق الانتخابي هو عنوان تجربة وإشارة مستقبل. وقبل أسابيع أرسل مقالًا، وقت انعقاد ورشة البحرين، يؤكد الثوابت الوطنية وحق الفلسطينيين في دولتهم، وقبل أيام فقط كتب مقالًا مهمًّا -يعد وثيقة للأدباء والكتاب والمثقفين العرب- ينتقد فيها المطبعين الذين يهرولون إلى الكيان الصهيوني، وتهكم على قول إحداهن أن (إسرائيل) لم تطلق علينا رصاصة واحدة!
لن أستطيع أن أنعى حبيب الصايغ لأنه معي الآن، وسيظل أخًا وصديقًا وشاعرًا قبل شراكة العمل التي جمعتنا، لن أستطيع أن أكتب عبارات رثاء محفوظة ترددها الذاكرة العربية في تلك المناسبات، لكنني سأقول إن حبيب الصايغ أحب الحياة كما ينبغي لها وله، وعاش كما يحب، وهاجمه المرض وهو لم يزل شابًّا، لكنه قاومه لسنوات، وها هو اليوم يختار طريقة أخرى، ويختار -بوعي الشاعر والمثقف- ألا يترك ذكرى أليمة لأحد، وألا يترك صورة عابسة، وألا يودع أحدًا أيضًا، لدرجة أن أصدقاءه المقربين قرأوا خبر رحيله في الصحف!!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة