فكر البابا فرنسيس يجد على أرض الإمارات التربة الخصبة للحصاد، فقد أصبحت الإمارات مثالاً لدولة التسامح والتصالح مع الذات ومع الآخر.
نحو أسبوعين تقريباً يفصلان الإمارات العربية المتحدة أرض التسامح والمودات الإنسانية الراقية والرائقة من زيارة بابا روما، الرجل ذو الرداء الأبيض وصاحب التسميات العديدة، فهو أسقف روما، وخليفة ماربطرس، والحبر الأعظم، عطفاً على أنه رسمياً رئيس دولة الفاتيكان المستقلة، تلك الرقعة صغيرة الحجم جغرافياً، والهائلة بمؤمنيها ديموغرافياً، حيث يعد أتباع البابا الروماني الكاثوليكي نحو مليار وثلاثمائة مليون حول العالم، منتشرين في ست قارات الأرض.
إنهم قادة من ذوي عقلية جديدة ومغايرة، وهو الأمر الذي ينسحب دون مغالاة على قادة الإمارات العربية المتحدة في حاضرات أيامنا، قادة وصفهم البابا بقدرتهم على قيادة شعوبهم إلى السلام عبر الخدمة المخلصة والتواضع الخلاق، وبعيداً كل البعد عن الغطرسة والغرورفي الخامس من فبراير تسطر الإمارات فصلاً جديداً في تاريخ الخليج العربي، ذلك بأنها المرة الأولى عبر ألفي عام التي يزور فيها بابا الفاتيكان تلك الرقعة الجغرافية من المسكونة، زيارة عنوانها الإخوة، وزادها الإنسانية، في أوقات قلقة مضطربة إقليمياً ودولياً؛ حيث القوميات ترفع شعارات الكراهية، والعصبيات والشوفينيات تعلنان العصيان رفضاً تجاه الآخر المغاير.
على ملعب زايد وتحديداً نهار الخامس من فبراير/شباط المقبل يحتفل البابا فرنسيس بالقداس الإلهي، حسب التسمية الرسمية لتلك الصلاة المسيحية، مع نحو 120 ألف نسمة.
المشهد هنا يتجاوز الحديث عن الأرقام إلى الحديث عن التسامح عينه، ذاك الذي تكرس له الإمارات العام الجاري بجملته، والذي تتعدد وتتنوع فاعلياته، وفي المقدمة منها الاحتفاء بالضيف الكبير.
حين نقول إن الإمارات تتجرأ قولاً وفعلاً على الحلم فإننا لا نغالي، ذلك أنه من كان له أن يتخيل أن يقوم الحبر الروماني بالصلاة بصورة رسمية في قلب دولة تقع في منطقة الخليج العربي، لولا وجود إرادة وإدارة حديدية للقائمين عليها وصناع القرار فيها، القابضون على جمر التنوير والمودات، على التسامح والمحبات بأياديهم في الحل والترحال.
حديث التسامح الإماراتي يشهد له القاصي والداني، وفي المقدمة من هؤلاء جميعاً الكاردينال "بيترو بارولين" رئيس الكوريا الرومانية، أي رئيس وزراء حكومة الفاتيكان.
كان ذلك في شهر يونيو من عام 2015، والمناسبة هي افتتاح الكنيسة الثانية في أبوظبي، وقد كان وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك حاضراً هذه المناسبة، وأشار في كلمته إلى أن افتتاح كنيسة جديدة يسلط الضوء على " التسامح الديني" لقادة بلاده.
كلام الشيخ نهيان أكده الكاردينال "بارولين" في عظة القداس الافتتاحي، حين تحدث مستذكراً "طيبة الحكام السابقين والحاليين وكرمهم في توفير الأرض لبناء كنائس جديدة في البلاد".
في ذلك اليوم أشار أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان إلى أن "الإذن الذي منحته السلطات المحلية لبناء أماكن جديدة للعبادة هو علامة ملموسة على كرم الضيافة التي أظهرها مجتمع الإمارات تجاه المسيحيين، كما يشهد على التزامهم بالعمل لصالح مجتمع قائم على التعايش والاحترام المتبادل".
يذهب فرنسيس إلى الإمارات بشعار "اجعلني إلهي أداة لسلامك"، وعنده أن السلام هو الطريقة التي يتمكن بها الناس ذوو النوايا الحسنة من تغيير شكل العالم، مهما اختلفت أديانهم أو تنوعت مشاربهم وألوان بشرتهم، ففي النهاية هم أخوة في الإنسانية، وهو الموضوع الذي سيدور من حوله "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية" الذي سيعقد على أرض الإمارات الطيبة خلال زيارة البابا.
قبل بضعة أيام كان البابا فرنسيس يستقبل أعضاء من جمعية "مدينة السلام"، ويومها تحدث عن السلام وكيف أنه مسؤولية الجميع، وأن علينا بجهود الجميع إزالة الحرب من العالم، ومن تاريخ الإنسانية بشكل نهائي".. لكن السؤال المثير كيف الوصول إلى هذا السلام؟
يجيب البابا فرنسيس في معرض حديثه؛ أن الأمر يحتاج إلى ساسة قادرين على الحوار والنقاش مع الآخر، هؤلاء فقط يقيمون السلام، إنهم قادة من ذوي عقلية جديدة ومغايرة، وهو الأمر الذي ينسحب دون مغالاة على قادة الإمارات العربية المتحدة في حاضرات أيامنا، قادة وصفهم البابا بقدرتهم على قيادة شعوبهم إلى السلام عبر الخدمة المخلصة والتواضع الخلاق، وبعيداً كل البعد عن الغطرسة والغرور.
خلال اللقاء السنوي -الذي يجمع البابا كل عام مع الدبلوماسيين المعتمدين لدى حاضرة الفاتيكان لتبادل التهاني بالعام الجديد- كان الحبر الأعظم يطلق نداء للجماعة الدولية من أجل معالجة القضايا الراهنة، لا سيما شديدة التعقيد والمتعددة الأطراف بطريقة سلمية، الأمر الذي أكد أنه يحتاج إلى أطراف متعددة، وعن طريق الحوار الفعال والأخوي المبني على الثقة المتبادلة، والبعيد عن فكر التسلط والتجبر والتكبر، معتبراً أن الطريقة الوحيدة الكفيلة بمواجهة التحديات تتمثل في العمل داخل المنظمات الدولية، والتي شكلت فسحة للحوار والتلاقي بين البلدان.
ضيف الإمارات الكبير الجالس على الكرسي الرسولي لا ينفك يتطرق إلى الأزمات والحروب التي تنغص عيش السلام حول الكرة الأرضية، ولا يستنكف أن يرفع صوته عالياً من أجل الدفاع عن شرائح العائلة البشرية الأكثر ضعفاً وتهميشاً، فضلاً عن المساعي الرامية إلى بناء جسور بين الشعوب وإعادة النظر في المصير الإنساني المشترك.
فكر البابا فرنسيس يجد على أرض الإمارات التربة الخصبة للحصاد، فالمتابع لسيرة ومسيرة تلك الدولة التي تحولت إلى رسالة يجد دعوات ومؤتمرات السلام والوئام والتقريب بين البشر قائمة على أراضيها بشكل خلاق، إلى الحد الذي أصبحت فيه مثالاً لدولة التسامح والتصالح مع الذات ومع الآخر.
لا يجلس فرنسيس على عرش البابوية ليحكم باسم الله على البشر، بل يؤمن بأن الكنيسة لم توجد لتدين الناس بل لتضعهم وجهاً لوجه مع المحبة الخالصة النابعة من صميم رحمة الله..
زيارة تغير مجرى كثير من التابوهات الكلاسيكية البالية، وبداية جديدة لفصل من تاريخ المودة وفقه المحبة تكتبه الإمارات بأحرف من نور.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة