مشهد يسجله التاريخ بحروف من نور لرئيس يفتتح مسجدا وكاتدرائية هما الأكبر من نوعهما في الشرق الأوسط، وفي ليلة واحدة
مصر تصنع التاريخ من جديد، عبارة يمكنها أن توجز فتنجز حال مصر في ليلة عيد الميلاد المجيد بحسب الطقس الشرقي.
في رقعة كانت صحراء جرداء، ارتفع الأذان الله أكبر، على وقع أجراس الكنائس التي حملت بشرى مولد السيد المسيح الذي قال فيه القرآن الكريم "وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين"، ورتلت الملائكة عشية مولده "المجد لله في العلاء وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة" .
مشهد البابا والرئيس وشيخ الأزهر ومفتي الجمهورية يحمل رسالة واحدة أن هناك أملا وإمكانية حقيقيين في العيش معا، وأن الإرادة الواعية الحكيمة، والإدارة الحاسمة القابضة على الجمر تستطيع أن تصنع تنويرا حقيقيا، وتشع أنوارا غير مسبوقة
مشهد يسجله التاريخ بحروف من نور لرئيس يفتتح مسجدا وكاتدرائية هما الأكبر من نوعهما في الشرق الاوسط، وفي ليلة واحدة.
أزاح الرئيس السيسي الستار عن لوحة افتتاح المسجد، ويا للعجب إذ لم يكن هو المتحدث الأول في تلك الليلة داخل المسجد، ولا شيخ الأزهر، أو مفتي الجمهورية، إنما بابا الأقباط، وهي لفتة تعبر عن نسيج المجتمع المصري الذي لم يعرف التفرقة، وقفز على الطائفية.
البابا تواضروس ومن قلب المسجد يخبر العالم أجمع بأنه يوم فرح ويوم ابتهاج ينبغي أن نفرح فيه ونحن نرى مصرنا العزيزة تسجل صفحة جديدة في كتاب الحضارة المصرية العريقة، فمصر التي علّمت العالم فن الأعمدة حاضرة اليوم وفي هذه الساعة فبعد المسلة الفرعونية، جاءت المنارة المسيحية، ومن بعدها المئذنة الإسلامية، وجميعها لها دلالة واحدة واضحة، وهي أن المصري كان ولا يزال يبحث عن الإله الواحد لترتفع دعوة التوحيد عند إخناتون وقبل موسى عليه السلام في تل العمارنة جنوب مصر.
مثير جدا شأن مصر، فقبل خمس سنوات استطاع تيار من الظلاميين أن يسطو عليها في غفلة من التاريخ، وخيل للناظر أن مصر قد ماتت أو هي في أحسن الأحوال في تاريخها للموت، غير أن مصر التي تنام أحيانا، ليظن بها الموت فإذا بها حين تستيقظ من السبات تأمر الجبل أن ينتقل وينقلع من موضعه وموقعه فيطيع ويرمي نفسه في اليم.
حين أحرق الإرهابيون من الإخوان كنائس وممتلكات الأقباط في أعقاب فض اعتصامي النهضة ورابعة، قال بابا الأقباط "إننا نعتبر دخان الحرائق بخورا صاعدا إلى السماء فداء لمصر"، وأردف أن "وطنا من غير كنائس أفضل من كنائس من غير وطن"، تلك العبارة التاريخية التي دخل بها سجل تاريخ الأقباط الوطنيين من زمن بعيد.
لم تكن مصر الجديدة، مصر السيسي، الناهضة، الولادة، الخلاقة، أقل تقديرا واعتزازا بالدور الوطني لأقباط مصر، وفي قلب الكاتدرائية القديمة دخل السيسي ليحتفل مع الأقباط بعيد الميلاد عام 2014 ليحدث فرحة تاريخية غير مسبوقة فهو بين أبنائه وبناته، بين مواطنيه دون تمييز ديني أو عرقي أو مذهبي.
من فوق منصة الكنيسة ليلة عيد الميلاد تلك، وعد القائد بأن تبنى وترمم جميع الكنائس التي أضيرت، وفي العام الذي يليه أوفى الرجل بوعده، ثم وعد ببناء أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط، والعام الماضي ذهب ليحتفل مع مواطنيه في القاعة الصغرى التي انتهى إنشاؤها، وأمس كانت الفرحة الكبرى بافتتاح الكاتدرائية التي ستكون المقر الرسمي لبابا الأقباط في عاصمة مصر الجديدة، مصر المتسامحة مع الذات والمتصالحة مع الآخر.
على أبواب الكاتدرائية وبعد رفع ستار اللوح التذكاري يتبادل شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الأدوار مع بابا الأقباط ويلقي الكلمة بدوره، وفيها تتجلى سماحة الإسلام الذي اعتبر أنه "شرعا" على المسلمين ضمان أمن وأمان الكنائس، وأن غالبية كنائس مصر المعاصرة بُنيت في قلب الدولة الإسلامية، وأن الإسلام لا يمانع أبدا في بناء دور العبادة المسيحية وأضاف "وحتى اليهودية"، وأنه من حق مصر أن تزهو في مثل تلك الليلة العظيمة.
وحين يجيء الدور على رئيس البلاد يعلو هتاف الأقباط بعبارة "بنحبك يا سيسي"، عبارات صادرة من القلب لمؤمنين يحملون أعلام مصر وعندهم أن محبة الأوطان من الإيمان، والذي يستهل كلمته بعبارته المحببة والمحبوبة "إحنا واحد وهنفضل كده طول العمر".
يدعو السيسي شعبه والشعوب المجاورة لتأمل حال البلاد التي تفتتها الفتن من الداخل، وكيف يجب أن يستيقظ الجميع للمخاوف المحدقة بشعب مصر.. "سنبقى طول عمرنا واحد، وبيننا شجرة محبة غرزناها مع بعض".
يدعو السيسي من قلب الكنيسة ليسود نموذج تسامح الإنسانية برمتها، وأن ترسل مصر إشارات المحبة والألفة للكون برمته في مثل هذه الليلة المباركة.
مشهد البابا والرئيس وشيخ الأزهر ومفتي الجمهورية يحمل رسالة واحدة أن هناك أملا وإمكانية حقيقيين في العيش معا، وأن الإرادة الواعية الحكيمة، والإدارة الحاسمة القابضة على الجمر تستطيع أن تصنع تنويرا حقيقيا، وتشع أنوارا غير مسبوقة.
افتتاح المسجد والكنيسة في يوم واحد ترسيخ لمفهوم التسامح الديني والإنساني، وإعلاء لمبدأ المواطنة المتكافئة بين أبناء الوطن الواحد.
يأتي الحدث الكبير والجليل في عام التسامح الذي أعلنته دولة الإمارات، وفيه تستقبل البابا فرنسيس أسقف روما وخليفة ماربطرس، وكأن العالم العربي والإسلامي يبعث برسالة للعالم من حولنا، رسالة مفادها أن الأديان التوحيدية ولدت مشرقية، يهودية، مسيحية، إسلامية، وأن الحضارة العربية التي علّمت العالم ها هي تشع من جديد بأنوارها على العالم.
هل ما يجري على أراضي عالمنا العربي هو فعل من متناقضات القدر؟
المقصود بعلامة الاستفهام هو أنه في حين تنمو وتتصارع القوميات والاتجاهات اليمينية المتعصبة بل المتطرفة في الحاضنات الغربية، نرى الشرق العربي بمسلميه ومسيحييه يفتح أبوابه وأحضانه للجميع، الداخل أولا والخارج تاليا، يعيد زمان الوصل في الأندلس من جهة، ويبني الجسور مع الآخرين من جهة ثانية، ينزع عنه أردية التطرف، ويخلع أثواب الأصولية.
المسجد والكاتدرائية هما رسالة خلاقة في مواجهة الإرهاب الأعمى الذي ضرب ويضرب مصر في أبنائها مسلمين ومسيحيين، وكم هو مؤسف وأليم أن يسقط ضابط شرطة مسلم عشية العيد من جراء محاولته نزع فتيل قنبلة كانت معدة للتفجير بجانب كنيسة في حي مدينة نصر بالعاصمة المصرية القاهرة.
أما المفرح في الأمر رغم الألم، فإن الذي نبه الجميع إلى الخطر الداهم والقادم لجهة الكنيسة هو إمام المسجد القريب من الكنيسة، تلك هي مصر في الحال والاستقبال، عصية على الفتنة، رافضة للخنوع أو الاستكانة.
مشهد عشية الميلاد من قلب مصر المحروسة لا يخص أبناءها فقط، بل جميع الأجيال الصاعدة في العالم العربي، والرسالة "لا تغضبوا ولا تيأسوا، ولا تخشوا الظلاميين، فقد جلس أجدادكم من العرب الأصلاء على أعلى قمم الحضارة حينما فتحوا قلوبهم وعقولهم متسامحين مع الآخر فقامت نهضة على أكتاف يهود ومسيحيين ومسلمين، حضارة لعبت دور الجسر والقنطرة مع العالم الأوروبي وأنارت له الطرقات المظلمة.. نعم أنتم تستطيعون السير في دروب الآباء والأجداد.. الأمل يناديكم والعمل على أطراف أياديكم.. كل عام وأنتم بخير، وتحيا مصر في المبتدأ والخبر".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة