يذكرنا الحبر الأعظم بأن السلام يشبه الرجاء الذي يتكلم عنه الشاعر "شارل بيجي"، والذي يشبهه بزهرة هشة تحاول أن تتفتح وسط أحجار العنف
كعادته كل عام وفي الأول من يناير/كانون الثاني يصدر بابا روما رسالته للعالم بشأن السلام، ودلالة اليوم الأول تشي بالرغبة في أن يكون السلام هو السيد في العام الجديد، فحيث وجد السلام طردت الحرب إلى الخارج.. لكن هل من سلام دون صفح وتسامح ومسامحة وغفران وإنكار ذات؟
مفهوم السياسة عند البابا ينطلق من مفهوم التسامح والخدمة، التسامح الخلاق تجاه الآخر والخدمة للقريب والغريب معا، دون سيطرة أو هيمنة على الجميع، ويعتقد جازماً بأن العمل السياسي والمسؤولية السياسية يشكلان في الواقع تحدياً دائماً لجميع الذين تقع على عاتقهم مسؤولية خدمة بلدهم
جاءت رسالة البابا هذا العام تحت عنوان "السياسة الصالحة هي في خدمة السلام"، وعند الرجل صاحب الرداء الأبيض أن السلام هو ثمرة مشروع سياسي كبير يقوم على المسؤولية المتبادلة والترابط بين البشر، والمقدرة على أن يقودنا التسامح إلى بر الأمان والسلام، وبعيدا عن الصراعات والحروب والخصام.
يتساءل القارئ: بأي صفة يتحدث البابا؟ هل بصفته الدينية الروحية كراعٍ لمليار وثلاثمئة مليون كاثوليكي حول العالم، أم بصفته رئيسا لدولة هي الفاتيكان؟
في كل الأحوال ليس من تضاد بين الأمرين، لا سيما وأن الفاتيكان رمز روحي أكثر منه دولة لديها فرق عسكرية كما تندر الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين على رئيسها البابا بيوس الثاني عشر في العام 1945، غداة مؤتمر يالطا، ولم يكن يدري أن خلف بيوس غير المباشر، يوحنا بولس الثاني، والذي جاء من بعد عدد اثنين من الباباوات، سيكون الرجل الذي سينزع شوكة الشيوعية حول العالم، بداية من بولندا موطنه الأصلي، وصولاً إلى موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي.
يذكرنا الحبر الأعظم بأن السلام يشبه الرجاء الذي يتكلم عنه الشاعر "شارل بيجي"، والذي يشبهه بزهرة هشة تحاول أن تتفتح وسط أحجار العنف، لا سيما وأن البحث عن السلطة مهم، كان الثمن يدفع إلى التجاوزات والظلم.
يتهم الكثيرون السياسة في عالمنا المعاصر بأنها مفسدة لأصحاب الضمائر الصالحة، ويستخدم البعض ألفاظا قاسية في وصفها، فيرى البعض أنها "نجاسة أدبية"، وآخرون "صراع المدنس ضد المقدس"، لكن أسقف روما يرى أن السياسة وسيلة لبناء مواطنية الأشخاص وأعمالهم، ولكن عندما لا تعاش كخدمة للمجتمع البشري يمكنها أن تصبح أداة قمع وتهميش ودمار أيضاً، وعنده أن سياسة دون تسامح تخلق من العقبات ما هو أكثر من حل للأزمات.
يذكرنا البابا فرنسيس في رسالته بما ذهب إليه سلفه البابا بولس السادس (1963-1978) من أن أخذ السياسة على محمل الجد على مختلف مستوياتها: المحلي، والإقليمي، والوطني، والعالمي، يعني التأكيد على واجب الإنسان، كل إنسان، بالاعتراف بالواقع الملموس وبقيمة حرية الاختيار التي تُعطى له لكي يسعى إلى تحقيق خير المدينة، والأمة والبشرية".
مفهوم السياسة عند البابا ينطلق من مفهوم التسامح والخدمة، التسامح الخلاق تجاه الآخر والخدمة للقريب والغريب معا، من دون سيطرة أو هيمنة على الجميع، ويعتقد جازماً بأن العمل السياسي والمسؤولية السياسية يشكلان في الواقع تحدياً دائماً لجميع الذين تقع على عاتقهم مسؤولية خدمة بلدهم، وحماية جميع السكان، والعمل على تهيئة الظروف لمستقبل كريم وعادل، ومن ثم يمكن للسياسة أن تصبح حقاً شكلاً سامياً للمحبة إذا تم تطبيقها في إطار الاحترام الأساسي للحياة والحرية وكرامة الأشخاص.
يستدعي أسقف روما في رسالته من أجل السلام هذا العام ما عرف بـ"تطويبات رجل السياسة"، تلك التي اقترحها الكاردينال الفيتنامي "فرانسوا كزافييه"، المتوفى عام 2002، والذي كان شاهداً أميناً للمسيحية ولحياة الإنجيل في غير زيف أو تملق، الرجل الذي ضرب بحياته أروع أمثلة التسامح حتى تجاه أعدائه، والذي يقول: "طوبى لرجل السياسة الذي يملك إدراكاً سامياً ووعياً عميقاً لدوره، طوبى لرجل السياسة الذي يعكس المصداقية في شخصه؟ طوبى لرجل السياسة الذي يبقى أميناً. طوبى لرجل السياسة الذي يحقق الوحدة. طوبى لرجل السياسة الذي يلتزم في تحقيق تغير جذري. طوبى لرجل السياسة الذي يعرف كيف يصغي. طوبى لرجل السياسة الذي لا يخاف".
لا يتوقف السعي إلى السلام والتسامح عند البابا فرنسيس أمام الدخول من باب التطويبات فحسب، بل يحذر من باب الرذائل السياسية، إن جاز التعبير، والتي تجعل السلام حلماً بعيد المنال، سواء كان الأمر ناجماً عن عدم الكفاءة الشخصية أم عن انحرافات في البيئة والمؤسسات، فمن الواضح للجميع أن رذائل الحياة السياسية تفقد المصداقية للأنظمة التي تعمل فيها، فضلاً عن السلطة والقرارات وعمل الأشخاص الذين يكرسون أنفسهم لها.
يدين البابا في رسالته جميع النقائص التي توجد في الأنظمة، والتي تعمل في اتجاه مضاد للتسامح وللسلام، لا سيما أنها تضعف الديمقراطية الحقيقية، ويقطع بأنها عار على الحياة العامة وتعرض السلام الاجتماعي للخطر.
ويهتم فرنسيس في رسائله بالشباب أمل الغد، ولهذا يندد بالاهتمام التمييزي الانتقائي الذي يحابي بعضهم ويترك أكثرهم مهمشين، ليتعرض مستقبلهم للخطر، بعد أن يفقدوا ثقتهم بالمجتمع، ويرى أنه دون تشجيع المواهب الشابة لا يتحقق السلام، لكن عندما تترجم السياسة في شكل ملموس متسامح ومتصالح إلى أفعال مشجعة ودافعة للشباب والشابات ينتشر السلام في الضمائر وعلى الوجود، ويصبح ثقة ديناميكية، تعني "أنا أثق بك وأؤمن معك"، في إمكانية العمل معا من أجل الخير العام، ومن ثم تكون السياسة من أجل السلام إذا تم التعبير عنها من خلال الاعتراف بمواهب كل شخص وقدراته.
أي شيء أجمل من يد ممدودة؟ أرادها الله لكي تعطي وتنال، فالله لم يردها لتقتل أو لتعذب، وإنما لكي تعتني وتساعد على العيش، فاليد إلى جانب القلب والذكاء، يمكنها أن تصبح أداة للحوار.
يدعونا البابا في نهاية رسالته إلى البحث جدياً وعميقاً ومعاً، من أجل التعرف على ثلاثة أبعاد لا يمكن الفصل بينها للسلام والتسامح الداخلي والجماعي:
أولاً: السلام والتسامح مع الذات، من خلال رفض التشدد والغضب ونفاد الصبر، بل عبر ممارسة القليل من اللطف تجاه الذات، كي نقدم "بعض اللطف للآخرين".
ثانياً: السلام والتسامح مع الآخر القريب والصديق، والغريب والفقير والمتألم.
ثالثاً: السلام والتسامح مع الخليقة، من خلال إعادة اكتشاف عظمة هبة الله، ومسؤولية كل فرد منا بصفته كمقيم في العالم، وكمواطن ورائد للمستقبل.
ليكن عامكم عام سلام وتسامح، محبة وصفح، غفران وتجاوز لأخطاء الغير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة