التجارة العالمية على مفترق طرق.. تداعيات تتجاوز الرسوم

في أعقاب التراجع المفاجئ لإدارة ترامب عن سياساتها الجمركية، أرسل البيت الأبيض رسالة تحدٍ واضحة، مضمونها أنه لا تزال الولايات المتحدة الشريك التجاري الأكثر جاذبية في العالم.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، إن العالم كله يتجه إلى واشنطن، لأنهم يحتاجون إلى أسواقها ومستهلكيها وقيادتها.
ووفقا لتقرير صحيفة "فايننشال تايمز"، فإن المزاج في العواصم الأخرى كان مختلفًا تمامًا. فمنذ إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، سعى المسؤولون التجاريون من آسيا إلى أوروبا وأمريكا الجنوبية إلى تقليل اعتمادهم على الولايات المتحدة، التي باتت تبدو مصممة على تقويض النظام التجاري العالمي. وقد تسارعت هذه الجهود بعد إعلان ترامب عن حزمة الرسوم الجمركية المعروفة بـ"يوم التحرير" في 2 أبريل/نيسان الجاري، والتي رفعت الرسوم على الواردات الصينية إلى 125%، وردت بكين بالمثل، مما أثار نُذر حرب تجارية شاملة.
وفي جنوب شرق آسيا، عقد الوزراء اجتماعات طارئة، بينما كثّف الاتحاد الأوروبي مفاوضاته مع شركاء من الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ. ويرى الخبراء أن العالم يتجه نحو مزيد من العولمة في الوقت الذي تنكفئ فيه الولايات المتحدة على نفسها، متخلية عن النظام الذي ساعدت في بنائه بعد الحرب العالمية الثانية.
ويقول موريس أوبستفيلد، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، إن بقية دول العالم ستسعى لعقد اتفاقات إقليمية لاستعادة الأسواق التي خسرتها بسبب السياسة الأمريكية. ومع ذلك، فإن الابتعاد عن السوق الأمريكية ليس بالأمر السهل، خاصة وأن المستهلك الأمريكي لا يزال عنصرًا أساسيًا في الاقتصاد العالمي.
وقد وصف وزير خارجية سنغافورة، فيفيان بالاكريشنان، هذه المرحلة بأنها "نهاية عصر"، داعياً إلى تعزيز التعددية الاقتصادية والتكامل التجاري مع أوسع مجموعة من الشركاء.
شراكات جديدة
وحتى قبل إجراءات ترامب الأخيرة، كانت العديد من الدول تعمل على بناء شراكات تجارية جديدة. فقد أرسلت دول من جنوب شرق آسيا وفودًا إلى فرنسا والبرازيل والهند ونيوزيلندا لتعزيز علاقاتها التجارية.
وتعمل سنغافورة على مبادرتين إقليميتين لإنشاء منطقة تجارة حرة في آسيا والمحيط الهادئ. كما تُخطط رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) لعقد محادثات مع دول مجلس التعاون الخليجي، على رأسها السعودية والإمارات. ومن المتوقع أن يجتمع زعماء هذه الدول في كوالالمبور في مايو/أيار، بدعوة من رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، بحضور قادة من الصين وسنغافورة وإندونيسيا.
وقد كانت دول جنوب شرق آسيا من بين الأكثر تضررًا من الرسوم الأمريكية، خاصة تلك التي اعتمدت على التصدير إلى الغرب. وكانت قد استفادت من استراتيجية "الصين زائد واحد"، حيث نقلت الشركات إنتاجها إلى هذه الدول هربًا من التوتر الأمريكي الصيني. لكن مع تصاعد المواجهة، بدأت تبحث عن تحالفات جديدة.
كما بدأ الاتحاد الأوروبي يعيد تقييم استراتيجيته، إذ لديه شبكة واسعة من الاتفاقيات التجارية تغطي 44% من تجارته. وقد أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، عن دفع مفاوضات جديدة مع أمريكا اللاتينية وأستراليا، وأطلقت محادثات تجارية مع دولة الإمارات.
تحديات قائمة
ومع ذلك، تبقى الخلافات الداخلية في الاتحاد الأوروبي عقبة، خاصة فيما يتعلق باستيراد المنتجات الزراعية. وقد رفضت فرنسا والنمسا وهولندا المصادقة على اتفاقية ميركوسور بسبب مخاوف بشأن حماية مزارعيها.
وبعض الدول قد تفضل الاتفاقات الثنائية لتسريع التفاهمات، خاصة مع تصاعد الحواجز التجارية. ويقول سونيل كوشال من بنك ستاندرد تشارترد إن الاتفاقات الثنائية قد تكون أسرع وأكثر مرونة من مفاوضات الكتل الاقتصادية.
ولكن رغم هذا الزخم، من الصعب أن ينفصل العالم تمامًا عن الولايات المتحدة، التي تظل أكبر مستورد للسلع في العالم، مع عجز تجاري بلغ 918 مليار دولار العام الماضي. ويخشى الاقتصاديون من أن تؤدي الرسوم إلى ركود أمريكي، مما سيقلص الطلب على الواردات ويؤثر على التجارة العالمية.
ومع تعمق الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، قد تتدفق السلع الصينية إلى أسواق أخرى، مما يضغط على الصناعات المحلية. الاتحاد الأوروبي يدرس اتخاذ تدابير وقائية لتفادي هذه التأثيرات، وهو أمر يقلق العديد من الدول التي تخشى أن تصبح مكبًا لبضائع رخيصة.
ويحذر الاقتصادي فيليبي كامارغو من أن المواجهة الأمريكية الصينية قد تؤدي إلى سلسلة من التأثيرات السلبية على نمو التجارة العالمية، خاصة أن تراجع الصادرات إلى أمريكا سيؤدي إلى انخفاض الاستيراد من شركاء آخرين.
ويظل الفائض التجاري الصيني الهائل مصدر توتر عالمي، وقد يؤدي إلى مزيد من الاحتكاكات، خصوصًا إذا دخلت الولايات المتحدة في حالة ركود. ومع ذلك، لم تمنع هذه التحديات الدول من المضي قدمًا في مساعيها لبناء نظام تجاري عالمي أقل اعتمادًا على أمريكا.
aXA6IDE4LjIxOS40My4yNiA= جزيرة ام اند امز