التاريخ يحذر: حروب التجارة طريق مختصر للكساد

يشهد العالم اليوم تباطؤاً اقتصادياً عالمياً غير مسبوق، فبعد فرض الولايات المتحدة تعريفة جمركية بنسبة 145% على الواردات الصينية، ورد الصين بتعريفة انتقامية بنسبة 125%، توقفت فعلياً أكبر علاقة تجارية ثنائية في العالم.
وقد بدأت العواقب في الظهور -بحسب تحليل نشرته مجلة "فورين بوليسي"- من صدمة تضخمية وشيكة في الولايات المتحدة إلى احتمال تخلّي الصين عن شراء سندات الخزانة الأمريكية، فإن الآثار المترتبة قد تهدد استقرار النظام المالي العالمي. ورغم منح دول أخرى فترة سماح مؤقتة مدتها 90 يوماً من الرسوم الجمركية الجديدة -التي بلغت في بعض الحالات 50%- إلا أن خطر حدوث اضطراب اقتصادي عالمي لا يزال قائماً.
وقد تفاعلَت الأسواق العالمية بقوة بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رسوم جمركية جديدة شاملة على معظم الواردات الأمريكية في 2 أبريل/نيسان الجاري. وتلاشت تريليونات الدولارات من الأسواق المالية خلال أيام. وسارع المستثمرون إلى سحب أموالهم من الدولار الأمريكي وسندات الخزانة. وبدأت مؤشرات العدوى المالية تظهر بوضوح. ومع إصرار كل من ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ على عدم التراجع، يتزايد خطر تصاعد هذه المواجهة إلى أزمة اقتصادية عالمية شاملة.
دروس تاريخية
ويقدّم التاريخ الاقتصادي دروسًا مهمة حول مخاطر الحروب التجارية. فمنذ القرن التاسع عشر، شهدت الولايات المتحدة 6 حالات ركود اقتصادي عميق -يُعرّف هنا بأنه انكماش اقتصادي مستمر لستة أرباع متتالية أو أكثر. جميعها، باستثناء واحدة، كانت نتيجة مباشرة أو تفاقمت بفعل الرسوم الجمركية والقيود التجارية. وقد تتسبب سياسة ترامب الجمركية في أضرار جسيمة ما لم يتم كبحها بسرعة.
ولطالما استفادت الاقتصادات من التجارة الدولية وفقًا لمبدأ "الميزة النسبية"، الذي يتيح لكل دولة التركيز على إنتاج ما تتقنه بأقل تكلفة -سواء كان ذلك في زراعة القمح، أو صناعة النسيج، أو عمل البرمجيات. وقد أثبت التاريخ هذا المبدأ. ومع ذلك، تميل الدول الكبرى أو التكتلات الاقتصادية- مثل الصين أو الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي- إلى التلاعب بمبادئ التجارة الحرة. فهي قد تتدخل في أسعار صرف العملات، أو تقدم دعمًا ماليًا لقطاعات محددة. كما أن الأنظمة البيئية أو قوانين العمل قد تُستخدم كأدوات غير مباشرة لتعديل التوازن التجاري. وغالبًا ما تدعم الاحتكارات المحلية هذه السياسات الحمائية، لحماية نفسها من المنافسة وتعظيم أرباحها.
أما الولايات المتحدة، فقد كانت عرضة تاريخياً للحروب التجارية، بسبب إرثها الاستعماري. إذ كانت بريطانيا تتحكم بتجارة مستعمراتها وتمنعها من تطوير صناعاتها الخاصة. هذه السياسات كانت من الأسباب التي أدت إلى الثورة الأمريكية. لذلك، حاول واضعو الدستور الأمريكي الحد من قدرة السلطة التنفيذية على تغيير السياسات التجارية بشكل مفاجئ، وجعلوا إصدار قوانين العائدات من اختصاص مجلس النواب بموافقة مجلس الشيوخ.
أول أزمة
أما أول أزمة اقتصادية كبرى في تاريخ الولايات المتحدة فبدأت عام 1816، عندما أغرقت بريطانيا الأسواق العالمية بفائض الأقمشة الصوفية بعد انتصارها في حرب نابليون. شعر التجار والمصنّعون الأمريكيون بالتهديد وطلبوا من الكونغرس فرض قيود. وفي عام 1817، صدرت قوانين "الملاحة" التي منعت البضائع البريطانية. وردت بريطانيا بإجراءات منعت صادرات الحبوب الأمريكية إلى مستعمراتها في الكاريبي، مما أدى لانهيار أسعار القمح بنسبة 50%، وعجز المزارعين عن تسديد ديونهم.
واندلعت "أزمة 1819"، واستمرت القيود التجارية في تشويه الأسواق. أنقذت نيويورك نفسها جزئيًا من خلال تهريب القمح إلى كندا، حيث كانت المطاحن الكندية تحوّله إلى طحين يُعاد تصديره للكاريبي. أما الولايات الجنوبية، فازدهرت فقط بعد أن تخلت عن زراعة القمح والأرز لصالح القطن المعتمد على العمل بالسخرة. وساهمت هذه الحرب التجارية في ارتفاع أسعار الغذاء بمزارع الكاريبي إلى درجة دفعت ملاك العبيد هناك للمطالبة بإلغاء العبودية -لكن بشرط تعويضهم ماديًا.
وفي أمريكا، أدت قوانين تجارية دولية إلى تراجع صادرات الحبوب، مما زاد الاعتماد على زراعة القطن والعبودية. ولاحقًا، اتخذ الرئيس أندرو جاكسون قرارات مالية متسرعة، كإغلاق البنك الوطني ونقل الأموال إلى بنوك تابعة له، وأجبر المزارعين على الدفع بالذهب. هذا سبب أزمة مالية كبرى، خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة في بريطانيا، وانتهى الأمر بكساد 1837، حيث هرب ملاك المزارع من ديونهم وانتقلوا إلى تكساس مع عبيدهم.
تكرر الكساد في 1873 بسبب تغيرات في أسعار السلع، ثم في 1893 بعد أن فرض الجمهوريون تعريفات جمركية عالية (قانون ماكنلي)، مما قلل الإيرادات وأفقد الخزانة احتياطيها من الذهب، فانهارت الثقة في السندات الأمريكية.
وفي الثلاثينيات، ساهم قانون سموت-هاولي في اندلاع الكساد الكبير، إذ أن رفع الرسوم الجمركية فجأة يؤثر على التجارة الدولية بشكل عميق ويؤدي إلى نتائج غير متوقعة.
ووفقا للتحليل، فإن التاريخ يُظهر لنا أن التغييرات المفاجئة في السياسة التجارية، مثل رفع التعريفات الجمركية، تؤدي دائمًا إلى اضطرابات اقتصادية كبيرة. وهذا ما نراه الآن مع تعريفات ترامب الجمركية. ومثلما حدث في القرن التاسع عشر، ستضطر الكثير من الشركات اليوم إلى الانسحاب من صفقات قائمة بسبب التكاليف الجديدة المفروضة عليها، تمامًا كما فعل المزارعون والتجار وملاك العبيد في الماضي. على سبيل المثال، أعلنت شركة Howmet، وهي مورد طائرات في بيتسبرغ، عن "حدث قوة قاهرة"، ما يعني أنها قد توقف الشحنات بسبب تأثير التعريفات.
والعديد من هذه الصفقات ممولة عن طريق الائتمان، الذي تحتفظ به البنوك، وصناديق التحوط، وشركات التأمين، ومؤسسات مالية أخرى. وبعض هذا الائتمان يباع كمشتقات مالية لمستثمرين حول العالم. وفي حين أن أسواق الأسهم يمكنها امتصاص الخسائر بسرعة، إلا أن أسواق الائتمان أكبر وأكثر تعقيدًا، وأقل قدرة على التكيف -كما رأينا في أزمة 2008.
في ذلك الوقت، تدخل البنك الاحتياطي الفيدرالي وبدأ بشراء السندات المتعثرة لإعادة ضخ السيولة في السوق. ويعتقد الكاتب (رغم كونه مؤرخًا فقط) أن الاحتياطي الفيدرالي يمكنه التعامل مع الفوضى الحالية حتى الآن. لكن المشكلة الأكبر لم تأتِ بعد. فلا نعرف بعد التأثير الكامل لتجميد التجارة مع الصين، ولا نعلم ماذا سيحدث بعد انتهاء فترة التهدئة المؤقتة (90 يومًا) مع بقية دول العالم.
وإذا لم يتمكن الكونغرس من استعادة سلطته الدستورية في فرض التعريفات الجمركية -وكانت سلطة التجارة مركزة بيد شخص واحد فقط (كما حدث مع جاكسون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر)- فلا بنك مركزي، حتى الاحتياطي الفيدرالي، سيكون قادرًا على إنقاذ السوق من الانهيار المالي العالمي الذي يلوح في الأفق.
تُظهر هذه القصص كيف يمكن أن تؤدي الحروب التجارية إلى عواقب غير متوقعة ومدمرة، تطال الاقتصاد والمجتمع على حد سواء. واليوم، تتجه السياسات التجارية الأمريكية والصينية إلى مسار مشابه، ينذر بوقوع أزمة عالمية جديدة ما لم يتم التدخل سريعًا لإنهائها.
aXA6IDMuMTMzLjE0OS4yOSA=
جزيرة ام اند امز