صناعة الترفيه في العالم العربي.. وتقرير "حالة ومستقبل اللغة العربية"
هوليوود تتسيد صناعة الترفيه في العالم، وأصبحت أفلامها مراجع فنية يعتد بها وأي شخص يرغب في الانتشار لا بد أن يقدم عمله باللغة الإنجليزية
رغم أن نحو 400 مليون فقط يتكلمون اللغة الإنجليزية، لغة أولى لهم، فإن عدد المتحدثين باللغة الإنجليزية حالياً يقدر بنحو 1.8 مليار نسمة، يشكلون ما نسبته 25% من سكان العالم، وبغض النظر عما يقوله علم اللسانيات عن بنية اللغة الإنجليزية وصفاتها، فإننا ندرك أن هذا الانتشار الواسع للغة الإنجليزية كان له علاقة بالسياسة بالدرجة الأولى.
لطالما كانت هذه الأخيرة هي لغة أعظم إمبراطوريتين في العالم القديم والحديث، أي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية، لكن اليوم غربت شمس الإمبراطورية البريطانية، وصعدت الصين في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة بشرية واقتصادية عظيمة، رغم ذلك ظلت الإنجليزية اللغة السائدة في العالم، ولكن كيف حدث ذلك، ولماذا حلت اللغة العربية في المرتبة الرابعة بين اللغات الأكثر انتشاراً في العالم بما نسبته 6.6 من سكان العالم، رغم أن عدد المسلمين في العالم يقدر بنحو 1.8 مليار مسلم، وفقاً لدراسة أجريت مطلع 2017.
باختصار استبدلت الثقافة بالسياسة، كوسيلة جديدة في انتشار اللغة الإنجليزية عالمياً، إذ أصبح التراث الثقافي لعقود ما بعد الحرب هو القوة الناعمة في سيادة اللغة، عبر موسيقى الروك أند رول والجاز والديسكو والهيب هوب التي غزت العالم بلغتها الإنجليزية، وها هي هوليوود تتسيد صناعة الترفيه في العالم، وأصبحت أفلامها السينمائية إلى جانب السلاسل التلفزيونية الأمريكية مراجع فنية يعتد بها لأهل السينما والتلفزيون، وأي واحد منهم يرغب بالانتشار لا بد أن يقدم عمله باللغة الإنجليزية.
هذه "القوة الناعمة" تواصل التمدد والسيطرة في العالم، بسبب السياسة اللغوية التي تتبعها، إذ تعتمد على سياسة "السحب" و"الضرورة" لا "الفرض" لدفع الناس للتحدث باللغة الإنجليزية، فلا مفر على سبيل المثال لمن يريد أن يواكب العصر الحالي ويتكلم بلغته من تكلم اللغة الإنجليزية، ما دامت هذه الأخيرة لغة التكنولوجيا والإنترنت اليوم.
بالنظر إلى أن 1.8 مليار مسلم لا بد أن يكونوا على تواصل مع اللغة العربية بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو العدد الذي يفوق عدد المتكلمين بالصينية، ويعادل عدد المتحدثين بالإنجليزية، يمكن القول إن ما تحتاجه هذه الأخيرة لتسيد العالم ومنافسة الإنجليزية على المرتبة الأولى بين اللغات الأكثر انتشاراً في العالم هو وضع سياسة لغوية، وهو الأمر الذي شهدنا في العالم العربي، لا سيما سوريا ومصر، خطوات جدية له، وتصدرت الإمارات مشهده عبر حزمة من المبادرات لتعزيز مكانة اللغة العربية أطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وكان آخرها توجيهه بإطلاق تقرير "حالة ومستقبل اللغة العربية"، ليكون "أساساً ودراسة موسعة لمقاربة تحديات اللغة العربية بطريقة علمية تساعد على تطوير أساليب استخدامها وتعليمها وتمكينها كوسيلة للتواصل واكتساب المعرفة".
هذا التوجه الحكومي المهم والأساسي لا بد أن يترافق مع خطوات عملية يسهم فيها أهل المعرفة والإنتاج الفكري، ومن بينهم صناع الترفيه، السينما والتلفزيون، إذ أثبتت الدراسات العلمية أن ما ينتجه هؤلاء هو الأكثر تأثيراً في محيطهم، ومع حقيقة أن انتشار السينما والتلفزيون والإذاعة كان له الدور الكبير في بلوغ اللغة الإنجليزية ما بلغته اليوم، فيمكن القول إن الفيلم والمسلسل والبرنامج التلفزيوني من الممكن أن تكون أداة تعليمية للغة العربية، وعاملاً مساهماً في انتشارها، ولكن كيف يكون ذلك؟
تقول مديرة أحد نوادي السينما للأطفال في بريطانيا، في تصريح لصحيفة "الجارديان": "لدينا أطفال ليس لديهم كتب في المنزل ولكنهم على الفور يثقون في التحدث عن الفيلم لأنه شيء قد انخرطوا فيه بالفعل، ذلك الأمر اختبرته بنفسي، فقد فوجئت بابنتي الصغيرة (نايا)، ذات السنوات الثلاث، تتكلم مفردات من اللغة الروسية إثر مشاهدتها برامج أطفال روسية على يوتيوب، فقمت بتوجيه اهتمامها بالصوت والصورة إلى برنامج (افتح يا سمسم) في جزئه الثالث، لاكتشف كيف بدأ يتسلل إلى لسانها مفردات باللغة العربية الفصحى، لا سيما ما يتعلق بالأعداد والألوان، لكن (نايا) ما كانت تتفاعل مع كل فقرات البرنامج الموجه للأطفال، ووجدتها تتفاعل مع مسلسل تلفزيوني على نحو أكبر، وهو الأمر الذي أمكنني رده أن تفاعلها مع المادة التلفزيونية وتعلمها يزداد كلما كان المحتوى مشوقاً أكثر".
بمعنى أن قوة الفيلم أو المسلسل كأداة تعليم وترفيه، تكمن في قدرته على تكوين علاقة عاطفية مع المشاهد، وهذا يمكن فهمه على سبيل المثال، من تفاعل الناس لغوياً مع مسلسل "الجوارح"، الذي قدمت حكايته باللغة العربية الفصحى، في قالب درامي مشوق جعل الناس ينجذبون إليه ويقلدون أبطاله بما فيه اللغة، وفي وقت لاحق قدمت الدراما السورية دراما تاريخية عن الأندلس، كتبها الفلسطيني وليد سيف، مثل "صقر قريش" و"ربيع قرطبة" و"ملوك الطوائف"، واستولت لغتها الفصحى على اهتمام الناس وجذبتهم للشحنة العاطفية التي انطوت عليها اللغة وقدرتها على ملامسة قلوبهم قبل عقولهم.
وما نجح فيه السوريون في الدراما التاريخية، كانوا أخفقوا به في ثمانينيات القرن الفائت، وقبلها حين حاولوا تقديم دراما اجتماعية بلغة عربية فصحى، ونقطة الإخفاق كانت في المضامين التي حملت اللغة العربية، إذ لم تستطع أن تقيم تلك العلاقة العاطفية مع الناس.
باستثناء ما قدمه المصريون في فترة من الفترات، كان المسلسل التاريخي والمسلسل الديني هو حامل اللغة العربية وحاميها، ورغم تفاوت نجاحها الفني، فإن ذائقة المشاهد ظلت مرتبطة بهذه النوعية من الدراما بوصفها وثيقة لغوية يتفاعل معها، وكلنا نعرف أن كثيراً من الجمل العربية الفصحى التي يتداولها الناس في حياتهم العادية، ووسط لغتهم المحلية، مصدرها مسلسلات تاريخية أو أخرى حاولت محاكاتها، ولو على سبيل الكوميديا، وذلك الأمر الذي يملي بضرورة التدقيق اللغوي للنصوص الدرامية التاريخية.
إلى جانب الدراما التاريخية، تبرز مسلسلات الرسوم المتحركة العربية أو المدبلجة إلى العربية، ولعلنا لا نجد اثنان يختلفان أن أول مدرسة لتعليم اللغة العربية في حياتنا جميعاً كانت مسلسلات وأفلام الرسوم المتحركة.
وحقيقة أن الرسوم المتحركة واحدة من أفضل وسائل تمكين اللغة العربية عند الأطفال لا بد من تعزيزها، لا سيما أن التجربة أكدت أن الأطفال يرتبطون بالأفلام والبرامج الموجهة إليهم بغض النظر عن حالة الأهل التعلمية، ما يستدعي إيقاف حالة التدهور التي بدأت تنال من الدور التعليمي للغة العربية في هذه المنصات الترفيهية بظهور رسوم متحركة تتكلم باللهجات المحلية، والتدقيق في المحتوى.
اليوم، وفي إطار الدور المأمول من الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في تعليم اللغة العربية، للكبار والصغار على حد سواء، يحتاج صناعها إلى معرفة قوية بالموضوعات التي يجب أن يعول عليها كحوامل للغة، وأسلوب طرحها، وهم يحتاجون أيضاً إلى وعي أهداف تعليمية سليمة وسلوك التلقي وتوجهاته الثقافية المتنوعة، ويحتاجون إلى الوقت والموارد المالية التي توفر مستشارين لإجراء مناقشات حول المحتوى قبل إنتاجه، ولتقييمه بعد المشاهدة، كل ذلك يتطلب تشخيص "صناعة الترفيه باللغة العربية" في تقرير حالة ومستقبل اللغة العربية؛ لتضمين هذه الصناعة والتعويل عليها ضمن برنامج الاستراتيجية الوطنية لاستخدام اللغة العربية وتمكينها كوسيلة للتواصل واكتساب المعرفة.