لا بد من تحرك جاد لدول المنطقة لإعادة تهيئة القانون الدولي الذي قام على معاهدات واتفاقيات دولية، بعضها انتهى مثل سايكس-بيكو
كانت خطوة تمويهية هدفها ذر الرماد في العيون، تلك التي أعلن فيها السراج توقيعه مذكرة تفاهم مع أردوغان، ستمنح بموجبها من لا يملك لمن لا يستحق، فقد تم تدبير الأمور، وتم الشروع في تنفيذها منذ وقت بدليل المعلومات التي كشفها رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، التي تفيد بمقتل ضباط وجنود أتراك على الأراضي الليبية، وكذلك الصور التي تثبت وصول ترسانة ضخمة من المدرعات والأسلحة النوعية والتقليدية التركية عبر موانئ مصراتة والخمس وطرابلس، ولم يكن الإعلان بغرض البحث عن الشرعية المفقودة.
لا بد من تحرك جاد لدول المنطقة لإعادة تهيئة القانون الدولي الذي قام على معاهدات واتفاقيات دولية بعضها انتهى مثل سايكس-بيكو وكامب ديفد وغيرهما، كما أنه لا بد من السعي لإصلاح منظومة مجلس الأمن وآلية عمله، لا كما يحدث الآن من تحركات أوروبية خجولة
كذلك لدى أردوغان القدرة على مخادعة حلفائه والانقلاب عليهم، كيف لا وهو مهندس الانقلابات على الأقربين، وتاريخه مع أساتذته وزملائه السياسين منذ كان في حزب الرفاه خير شاهد، وآخر انقلاباته كانت على رفقائه في حزبه "أحمد داود أوغلو وعبدالله غل وعلي باباجان وغيرهم"، وهذا في إطار صراع تكتيكي للبقاء في صدارة قيادة إسلاميي تركيا ضمن التنظيم الدولي للإخوان المتأسلمين.
ومع الضربات التي تتلقاها حكومة أردوغان على الصعيد الدولي والإقليمي، آخرها العقوبات التي ينوي الكونجرس الأمريكي تطبيقها على حكومته وتهديد هيئة مراقبة الأموال غير المشروعة.
صحيح.. إنه الغاز الطبيعي هو كلمة السر، هو الوقود الذي يحرك أردوغان ويسيل لعابه، الغاز الطبيعي الذي نقل وسينقل اقتصادات دول في المنطقة إلى مصاف الدول الغنية، الغاز الطبيعي الذي اكتشف أكبر مخزون له حتى الآن في المتوسط في حقل ظهر قبالة مصر، الغاز الطبيعي الذي جمع مصر واليونان وقبرص في اتحاد ثلاثي، بدأ بموجبه العمل على الاستفادة من غاز شرق المتوسط لفائدة الدول الثلاثة، والذي سيضم ليبيا كذلك قريبا لهذا الحلف، الذي سيحيد تركيا -عمليا-، الأمر الذي لم يرق للسلطان العثماني فاستشاط غضبا وأرغى وأزبد وهدد قبرص واليونان مرارا بحرب في حال استخراج غاز شرق المتوسط دون إذنها، ولكن تهديده لم يتعدَّ التحرش العسكري بإحدى سفن التنقيب التابعة لشركة إيني الإيطالية، التي كانت في طريقها للمنطقة الاقتصادية القبرصية رقم 3، ثم إرسال ثلاث سفن حفر شمال وجنوب وغرب قبرص في المناطق المختلف على ترسيم حدودها بذريعة المحافظة على حقوق قبرص التركية من الغاز، لكنه لم ولن يطلق رصاصة واحدة ضد قبرص اليونانية، التي تحظى بدعم الاتحاد الأوروبي بأكمله، وبعلاقات حسنة مع المجتمع الدولي ودول المنطقة، الأمر الذي يفتقده أردوغان، والذي كان يسعى حليفه ووزير خارجيته السابق يوما ما لتطبيق ما سماها حينها بسياسة "تصفير المشاكل".
حصل أردوغان على مراده بشأن مذكرة التفاهم من البرلمان وإن كان بشكل مشوه، فقد اعترضت أحزاب المعارضة على إقرار تلك المذكرة، وسارع بعدها لإعلان الحرب في لبيبا إلى جانب حليفه الجديد فايز السراج ووزير داخليته الذي يدير الأمور فعليا في طرابلس فتحي باش آغا، ثم أعلن إرسال دفعة جديدة من المستشارين العسكريين الذين سيشرفون على تشغيل الأسلحة الجديدة والطائرات المسيرة.
في رأيي.. فإن تدخل أردوغان بهذه الطريقة السافرة في ليبيا يعبر عن ضعف اهتمام المجتمع الدولي بالملف الليبي، والصراع الذي استمر فيه لأكثر من ثماني سنوات، كما أنه يعبر عن خلل حقيقي في القانون الدولي؛ إذ كيف يقف مجلس الأمن الدولي مكتوف الأيدي ليتفرج على بلطجة أردوغان الذي صرح بإرسال قوات تركية إلى ليبيا، وطبعا هو لن يرسل جنودا أتراكا فيما عدى الضباط المستشارين؛ حيث لم يقبض مقابل ذلك شيئا من السراج كما قبض مقابل تسليح وتدريب مقاتلي النصرة من قطر، ومن ثم فإنه لن يرسل سوى مقاتلي داعش الذين فروا لتركيا ويتمركزون فيها بانتظار أوامر جديدة، سيفعل ذلك على سبيل الكيد والنكاية في المجتمع الدولي، لا سيما مصر التي تقود التحالف الثلاثي في شرق المتوسط، خاصة أن تركيا لم توقع معاهدة أو قانون البحار، والتي تعطي الحق لكل دولة موقعة بالحصول على منطقة اقتصادية خالصة وحصرية في المياه الاقتصادية بمقدار مئتي ميل بحري.
ونتيجة لهشاشة القانون الدولي فإن السيناريو على الأرض يشير إلى تطور دراماتيكي مسرحه الأراضي الليبية، وعنوانه "المواجهة"، وبناء عليه فلا بد من إيجاد صيغة قانونية جديدة للتحرك لوقف هذا الزحف التركي تحت أي مظلة إقليمية عربية أو أفريقية، أو تحالفات دفاع بحري بينية، وقد تشكلت نواة لتكتل اقتصادي يمكنه أن ينتج تحالفا دفاعيا يحمي مصالح الدول المحاصصة في غاز شرق المتوسط، تتمثل في منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم سبع دول.
ما لا يفهمه أردوغان وحاشيته أنه لن يعيد بتصرفاته هذه من ذكرى أجداده سوى النهايات التي أدت لسقوط مدو للسلاطين الظلمة الذين عاثوا في الأرض قتلا وحرقا وإبادة، حيث كان سلاطين الدولة العثمانية يتحالفون مع مراهقي السياسة وحديثي العهد بها ومع المرتزقة الانكشاريين، يشترون ولاءهم ويغرونهم بالمال أو السلطة والجاه في سبيل تحقيق أطماعهم ورغباتهم غير آبهين بالضحايا من الأبرياء.
هذا التشابه في أحداث مرحلة العثمانيين الأجداد وفترة العثمانيين الجدد ما هو إلا إحدى الدلائل على انكشاف نوايا أردوغان وطموحه الاستعماري الذي لا ينافسه سوى طموح ملالي طهران، أما الانكشاريون الجدد فهم جماعة الإخوان "المسلمين" وكل من تفرع منها من جماعات مسلحة تكفيرية أو أحزاب سياسية ذات خلفيات إسلاموية تشتري بآيات الله ثمنا قليلا.
أخيرا.. فإن التاريخ مليء بالعبر، وإن أراد العالم أن يأمن شرا قادما فلا بد من إيجاد بدائل للمعاهدات التي انتهى تاريخها أو هي على وشك الانتهاء كمعاهدة لوزان، التي ستكمل مئة عام بعد أعوام قليلة، حيث تشير تصرفات أردوغان بوضوح إلى أنه لا يحترمها، كما سبق أن قال إن خصوم تركيا هي التي أجبرتها على توقيع تلك الاتفاقية، وما يقوم به أردوغان في قبرص وليبيا وسوريا والعراق وبعض جزر اليونان يشير بوضوح إلى نيته للعمل بشكل جاد لإزعاج من أجبروا العثمانيين للتوقيع على سيفر ثم لوزان، بل الانتقام منهم ومن تحالف معهم من العرب، بغية التحرر من قيود لوزان التي تحرمه من كثير من خيرات البحر، ولو بحثتم قليلا في بعض خطابات أردوغان التي كان يبيع بها أصوات حملاته الانتخابية فقد كان يتحدث عن أن تركيا لها دور رئيسي في مشروع في الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، وهو المشروع الذي أريد لجماعة الإخوان المتأسلمين أن يكونوا وقودا له، وأراد أردوغان بطموحه أن يتزعمهم، لكن لم يكن في حسبان من خططوا ونفذوا أن مشروعهم سيفشل فشلا ذريعا.
لا بد من تحرك جاد لدول المنطقة لإعادة تهيئة القانون الدولي الذي قام على معاهدات واتفاقيات دولية بعضها انتهى مثل سايكس-بيكو وكامب ديفد وغيرهما، كما أنه لا بد من السعي لإصلاح منظومة مجلس الأمن وآلية عمله، لا كما يحدث الآن من تحركات أوروبية خجولة لا تعدو أن تكون مسكنات لا تعمل إلا على مراوحة الوضع الليبي في مكانه كما تفعل إيطاليا وغيرها، إما التحرك الجاد وإلا فإن المنطقة مقبلة على مزيد من المتاعب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة