كان من الممكن أن تنتهي ظاهرة "العائدين من أفغانستان" وتزول إلى غير رجعة
كثرت النظريات التي سعت خلال العقود الماضية لتفسير نشأة التنظيمات الإرهابية في العالمين العربي والإسلامي، جُل هذه النظريات انبرت في التركيز على أن الإرهاب في العالم الإسلامي هو نتيجة أفكار دينية مشوهة أو محرفة وفقط، عمل كل الباحثين على تفنيد هذه الأفكار الدينية وأضافوا إليها على خجل مجموعة أسباب اجتماعية كانت وراء نشوء تلك التنظيمات.
واكتشفنا بعد عشرات السنين أن منهج البحث هذا يشوبه الكثير من القصور؛ لأن البحث كله كان بحثا ما بعديا، بمعنى أنه يحلل ظاهرة موجودة بالفعل ولا ينشغل بالتحليل للفترة "ما قبل" لوجود هذه التنظيمات.
كان من الممكن أن تنتهي ظاهرة "العائدين من أفغانستان" وتزول إلى غير رجعة، خصوصا بعد أن أعلنت كثير من دولنا العربية عن خطة استيعاب هؤلاء العائدين ودمجهم في مجتمعاتهم مرة أخرى، لكن حدث متغير شديد الخطورة في الغرب، خصوصا في أمريكا نتج عنه متغير لا يقل عنه خطورة هنا في عالمناوهنا نؤكد أننا لا ننقض صحة تلك التحليلات، خصوصا المبنية على تفنيد الأفكار الدينية الخاطئة، لكن فقط نختلف مع إهمال جانب مهم في بحث أسباب وحيثيات نشوء هذه التنظيمات، إهمالا يلغي جانبا مؤثرا وفاعلا في الموضوع، وهو ما أريد أن أركز عليه هنا، وقد يكون جانبا جديدا في هذا الأمر؛ إن فعل الإرهاب في العالمين العربي والإسلامي جاء كرد على أفكار غربية كانت أكثر إرهابية من الأفعال نفسها.
لقد اشتغلت على إيجاد مواجهة في الزمن والمعتقد بين أخطر الأفكار الصدامية وأخطر التنظيمات الإرهابية في عالمنا، فتحققت الفرضية بكامل حثياتها،
وهنا سأركز على أخطر ثلاث ظواهر تنظيمية إرهابية عنيفة في العالمين العربي والإسلامي:
تنظيم القاعدة - تنظيم طالبان - تنظيم داعش.
إنها تنظيمات حديثة ما زالت الذاكرة تحفظها بكامل بشاعتها، الفرضية تقول إن تلك التنظيمات نشأت وتأسست كردة فعل على أفكار متطرفة غربية، وهنا أؤكد تحليل الظاهرة وليس إعطاء مبررات للأفعال الإرهابية، فليتحمل كل طرف نصيبه من التركة البشعة التي انتشر شرها في جميع أنحاء العالم، هذه التنظيمات هي بنت زمانها، وهي أيضا بنت أفكارها، هي بنت حقبة التسعينيات بامتياز، وكل تنظيم نشأ في بلادنا هو ابن فكرة نشأت.
تطرف الأفكار
لم تشأ حقبة ثمانينيات القرن الماضي أن تنتهي بدون تراجيديا سياسية تفوق التراجيديات اليونانية القديمة. في نهاية الثمانينيات ينهار الاتحاد السوفيتي وتنتهي حقبة الحرب الباردة التي كانت بين قطبين كبيرين يتصارعان على حكم العالم، الاتحاد السوفيتي من جهة وأمريكا من جهة أخرى، وقتها كانت المعركة صراعا بين أيديولوجيات وفقط، بين شيوعية روسية ورأسمالية أمريكية.
وفي هذا الصراع لم يكن العالمان العربي والإسلامي بعيدين عنه، بل كان جزءين من معركة الكبار، وهنا أذكر أفغانستان "البلد الإسلامي الصغير، الذي ظل لعشرة أعوام ساحة صراع بين الروس الذين احتلوه عام 1979 والمجاهدين الأفغان والمجاهدين العرب بدعم أمريكي صريح".
استمر ذلك الصراع حتى خروج آخر جندي روسي من أفغانستان عام 1989، وهنا أشير إلى نقطة شديدة الدلالة، وهي سرقة مصطلح ديني إسلامي وهو الجهاد، وتحريفه في قضية عالمية لمصلحة أحد الكبار وقتها وهم الأمريكان.
إن الجهاد ضد الكافر المحتل لبلد مسلم كان مبررا يلقى هوى في نفوس شبابنا، وبقليل من البحث في فقهنا الإسلامي تستطيع أن تثبت أن الجهاد فريضة واجبة، خصوصا إذا كان ضد أجنبي كافر يحتل بلدا إسلاميا.
وهنا نؤكد أن انطلاق حركة الجهاد بشقيها العربي والأفغاني في أفغانستان بدأ أولا، ثم بعد ذلك جاءت الأفكار والقواعد الفقهية.
ظل الأمر يلقى الهوى والدعم الأمريكي حتى انتصر الأمريكيون وتفكك الاتحاد السوفيتي وانفرد الأمريكان بحكم العالم، وقتها بحثوا في طريقة تعيد العفريت الذي أخرجوه إلى قمقمه مرة أخرى، لم ينجحوا وانطلقت حركة الجهاد من أفغانستان إلى داخل البلاد العربية، وحدثت القلاقل والأعمال الإرهابية في كثير من بلادنا العربية.
كان من الممكن أن تنتهي ظاهرة "العائدين من أفغانستان" وتزول إلى غير رجعة، خصوصا بعد أن أعلنت كثير من دولنا العربية عن خطة استيعاب هؤلاء العائدين ودمجهم في مجتمعاتهم مرة أخرى، لكن حدث متغير شديد الخطورة في الغرب -خصوصا في أمريكا- نتج عنه متغير لا يقل عنه خطورة هنا في عالمنا العربي والإسلامي.
فوكوياما وهانتنجتون مولد الصدام والصراعفي الغرب وفي أوائل التسعينيات بدأ ظهور مجموعة الأفكار المتصادمة، والتي تدعو في طياتها إلى صراع وصدام وتفكيك لما سمي وقتها بالكتل الصلبة وكانوا يقصدون: العالم الإسلامي والصين.
ليست صدفة إطلاقا -وأرجو أن نركز هنا على لعبة التواريخ- أن يكتب المفكر والفيلسوف الأمريكي "فرنسيس فوكوياما" مقالته الشهيرة "نهاية التاريخ"، وينشرها في مجلة "ناشيونال إنتريست" في عام 1989، وهو العام نفسه الذي ينسحب فيه آخر جندي روسي من أفغانستان، وبعدها يتفكك الاتحاد السوفيتي، وهو العام نفسه الذي ينتصر النموذج الرأسمالي الأمريكي على النموذج الشيوعي الروسي.
ماذا كان يريد أن يقول فوكوياما؟
كان يريد أن يعلن انتصار الأمريكان على الروس بطريقة فكرية عميقة، لقد أعلن بوش الأب الانتصار بطريقته في خطبته الشهيرة حين أعلن تأسيس النظام العالمي الجديد، لكن فوكوياما أراد أن يعلن الفوز بطريقته الأعمق والأهم، يعلن فوز نموذجين من الأفكار وليس فوز نموذجين من السياسيات.
"فرنسيس فوكوياما" أعلن في مقالته الشهيرة التي تحولت فيما بعد إلى كتاب شهير ثم إلى سياسة أكثر شهرة وإلى أفكار أكثر خطرا وتطرفا، أعلن أن الديمقراطية الليبرالية "النموذج الأمريكي" بجميع قيمه الحرية الفردية، المساواة، سيادة الشعوب، وحتى الليبرالية الاقتصادية "ستكون هي مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان".
هو هنا يؤكد أن نهاية التاريخ لا تعني توقف الأحداث، وإنما إعلان انتصار نموذج واحد على جميع الأفكار والمبادئ لعدم وجود بديل يستطيع تحقيق منافسة أفضل، وهنا يشير إلى النموذج الأمريكي المنتصر، بل يبالغ فوكوياما في نظريته بأن هذا النموذج الأمريكي سيبقى منتصرا.
إن ما قاله فوكوياما لم يكن جديدا وقتها، بل هو سارع في اختيار اللحظة وإعلان نتيجة أبحاث وأفكار من سبقوه من كبار الفلاسفة، خصوصا الفيلسلوف الكبير هيجل وكارل ماركس وغيرهما الكثير.
جميعهم كان يقول بنظرية "نهاية التاريخ"، التي تعني منذ "هيجل" بأن نظاما ما سياسيا واجتماعيا واقتصاديا قد يتطور ويصبح نقطة نهاية التطور الاجتماعي والثقافي البشري، والشكل الأخير للحكومات.
ومن ثم كان فوكوياما يسرق اللحظة ليعلن أن النموذج الأمريكي هو ذلك النموذج، الذي تتطور وأصبح النموذج الخالد والمنتصر بقيمه وأفكاره، وعلى السياسيين أن يعملوا للحفاظ على سيادة وانتصار هذا النموذج، وهو ما تم بالفعل من قبل السياسيين الذين تلقفوا الفكرة، وأسسوا مركزا كبيرا ومهما للدراسات ونصبوا فوكوياما رئيسا له، وعملوا على الكثير من الأفكار، التي كان نتيجتها التحرك المسلح لتنفيذ تلك الأفكار، وهو تفكيك الكتلة الصلبة الأولى وهي العالم الإسلامي، والكتلة الصلبة في مفهومهم الكتلة البشرية التي تحكمها ثقافة واحدة ولغة أحيانا واحدة وقيما حضارية واحدة وتكون مؤثرة، لذلك كانت الأمة الإسلامية هي الكتلة الأبرز في أفكار فوكوياما وحتى في أفكار أستاذه "هانتجتنتون"، وسأتحدث عنه بالتفصيل.
بدأ التفكيك باحتلال أفغانستان في أكتوبر 2001، ثم احتلال العراق في مارس 2003، أما الكتلة الثانية التي عملوا بكل الطرق لتفكيكها كانت الأمة الصينية، ولكن أثبت التاريخ أنها ظلت عصية على التفكيك، بل تقاسمت سيادة العالم معهم، ولعل الحرب التجارية الدائرة بين أمريكا والصين دليل على ذلك.
لماذا نجحوا في تفكيك الأمة الإسلامية "أمة أعظم البشر سيدنا محمد"، ولم ينجحوا في تفكيك الأمة الصينية أمة "كونفوشيسوس"؟
سؤال يحتاج إلى مقال قادم
نكمل في مقال قادم
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة