حزب الرئيس التركي رجب أردوغان جعل من الصندوق الانتخابي وسيلة للتحول نحو الحكم الشمولي وليس ممارسة الديمقراطية
إذا أردت أن تعرف كيف تصبح الديمقراطية في الموقع المضاد للحرية، فما عليك إلا أن تتأمل في تجربة أردوغان مع حزب الشعوب الديمقراطية، فهذا الحزب الذي طرح نفسه نموذجا للتعايش بين الترك والكرد والعرب وغيرهم من الشعوب في تركيا، وانتهج كل الطرق السلمية والآليات القانونية والدستورية في نشاطاته وممارساته، بات يختنق بقرارات أردوغان، ويتعرض إلى إقصاء ممنهج، إلى درجة أنه لم يعد يستطيع ممارسة أي نشاط حر، وهو ما قد يدفعه إلى الانسحاب من البرلمان.
واقع صعب، قد يضع حزب الشعوب أمام خيار وحيد، وهو الانسحاب من البرلمان بعد أن أصبحت ممارسة السياسة من داخله في خانة المستحيل، خاصة لجهة النتائج المأمولة
في التجربة العملية لممارسة الديمقراطية في تركيا برزت تجربة صندوق الاقتراع، مدخلا للوصول إلى السلطة، وهكذا وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، لكن الحزب وما أن تمكن من توطيد أركان حكمه حتى جعل من الصندوق الانتخابي وسيلة للتحول نحو الحكم الشمولي وليس ممارسة الديمقراطية كمفاهيم تتعلق بالحرية أولا وأخيرا، ولعل أسوأ الممارسات التي انتهجت ضد الديمقراطية من بوابة صندوق الانتخاب في تركيا، تلك المتعلقة بما يسمى قانون الوصي الذي أصدره أردوغان، إذ يحق لحكومته بموجب هذا القانون عزل رؤساء البلديات المنتخبين وتعيين شخص موال له بدلا المنتخب، مع أن هذا القانون غير قانوني؛ إذ إنه صدر بموجب مرسوم خاص من أردوغان في ظل حكم الطوارئ عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، بعد أن فشل حزبه الحاكم "العدالة والتنمية" في تمرير هذا القانون داخل البرلمان قبل ذلك بعام.
القانون المذكور تحول إلى سيف مسلط على حزب الشعوب الديمقراطية الموالي للكرد، فخلال عهد مرحلة الانتخابات البلدية الماضية، تم عزل 95 رئيس بلدية من أصل 102 رئيس بلدية، كان فاز بها أعضاء الحزب، وفي الدورة الحالية تم عزل 24 رئيس بلدية حتى الآن، مع أنه لم يمضِ على الانتخابات البلدية الأخيرة سوى أشهر قليلة.
الأمر نفسه، طال نواب حزب الشعوب في البرلمان؛ إذ تمت إقالة نحو عشر نواب في إطار تعديل القانون رقم 83، المتعلق برفع الحصانة عن نواب البرلمان، وزج بعضهم في السجون، بينهم الرئيس السابق للحزب صلاح الدين ديميرداش، الذي أطلق عليه لقب باراك أوباما تركيا بعد أن رشح نفسه للانتخابات الرئاسية الماضية في مواجهة أردوغان، الأمر لم يتوقف عند نواب ورؤساء بلديات، بل وصل إلى حد إغلاق عشرات المراكز المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان والثقافة والدراسات والمؤسسات الإعلامية والمرأة، فضلا عن اعتقال وسجن قرابة عشرة آلاف عضو من الحزب المذكور، طبعا كل ذلك بتهمة "الإرهاب" على أساس وجود علاقة مع حزب العمال الكردستاني الذي تحاربه تركيا منذ قرابة نصف قرن بكل أنواع السلاح.
والسؤال هنا.. كيف سيمارس حزب الشعوب نشاطه في ظل هذا النهج الإقصائي؟ وإلى أي مدى هذه الإجراءات تتوافق مع الديمقراطية كمفهوم له علاقة بالحرية والإرادة وتمثيل خيارات المجتمع؟ وألا يشجع مثل هذا النهج على الإرهاب والعنف والانقسام الاجتماعي والقومي، لطالما أن المستهدف هو حزب محسوب على الكرد؟ من دون شك هذه الأسئلة وغيرها تعبر عن إشكالية مزمنة في التجربة الديمقراطية في تركيا، يمكن وصفها بإشكالية عقدة القضية الكردية المنبثقة من الأيديولوجية القومية التركية التي تنكر وجود هذه القضية في البلاد؛ إذ لا يعقل وفق قواعد اللعبة الانتخابية التركية نفسها أن يتم إلغاء نتائج العملية الانتخابية بجرة قلم كما أرادت السلطات ذلك، ولا سيما أن هذا الإقصاء يستهدف تيارا سياسيا يؤمن بالحلول السلمية والتعايش الاجتماعي، في حين أن النهج الإقصائي يذكي العداوة بين الشعبين التركي والكردي، ويزيد من الانقسام بينهما، ويؤثر سلبا على التعايش السلمي لصالح الجماعات المتطرفة.
في الواقع، الصندوق الانتخابي لا قيمة له إلا إذا اقترن بممارسة الديمقراطية كمفهوم، وإلا لكان هتلر ديمقراطيا أيضا، لأنه جاء إلى الحكم أيضا عبر صناديق الاقتراع، وما يفعله أردوغان لا يختلف كثيرا عنه؛ إذ يريد الرجل أن يشتق منه الجميع القرار والسياسة وإلا فإن مصيره السجن والاعتقال، واقع صعب، قد يضع حزب الشعوب أمام خيار وحيد، وهو الانسحاب من البرلمان بعد أن أصبحت ممارسة السياسة من داخله في خانة المستحيل، خاصة لجهة النتائج المأمولة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة