يظن أردوغان أنه عرف كيف يستغل الفوضى الناشئة في المنطقة عقب ما سمي بثورات الربيع العربي، ولكن تناسى أن دولته ليست قوة عظمى.
لا يتوقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن القول إن اتفاقية لوزان كانت خسارة كبيرة لتركيا، وإنه لا بد من العودة إلى الميثاق الملي (الوطني)، إلى درجة أنه في تصريح له قبل سنتين سخر من حديث البعض عن انتصار أتاتورك في لوزان. واللافت أنه كلما اقتربنا من عام 2023، أي الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية لوزان، زاد أردوغان من حديثه عن إقامة تركيا جديدة على أنقاض لوزان، وكي يبرر مشروعية طلبه، ساق مجموعة من الأساطير عن لوزان، منها أن مدة الاتفاقية هي مئة عام فقط، وأن الاتفاقية منعت بلاده من حق التنقيب عن الطاقة، مع أن كل ما سبق لا يمت للحقيقة بصلة، وهي مجرد مزاعم ساقها أردوغان لتبرير تطلعه إلى تحقيق حلمه العثماني بحلول عام 2023 .
في الحديث عن الاتفاقيات التاريخية بخصوص تأسيس الجمهورية التركية عقب انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ثمة أسئلة كثيرة تطرح منها، ما الذي تعنيه العودة إلى الميثاق الملي؟ وهل من علاقة بين الحروب التركية الجارية ضد سوريا والعراق وليبيا وقضية العودة إلى هذا الميثاق؟ وهل كانت لوزان هزيمة لتركيا أم انتصارا لها ؟ .
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن أردوغان في حديثه عن اتفاقية لوزان والميثاق الملي، يتجاهل عن قصد حقيقة ما جرى، ويحاول تحميل المسؤولية لأتاتورك الذي لولاه لما كان هناك اتفاق لوزان، ولولا لوزان لما أصبح أردوغان رئيسا لبلدية اسطنبول ولاحقا رئيسا للجمهورية، فالثابت تاريخيا أن السلطان العثماني وحيد الدين هو من وافق على اتفاقية سيفر عام 1920، التي نصت على سلخ القسم البحري والجنوب والشرق عن حدود تركيا الحالية، فضلا عن إقامة دولة كردية وأرمنية في جنوب شرق البلاد، في حين رفض أتاتورك كل ذلك، وأعلن الحرب الوطنية ضد القوات الأجنبية التي زحفت إلى الأراضي التركية، وتقارب مع لينين قائد الثورة البلشفية في روسيا، وهو ما أدى لاحقا إلى موافقة الدول الغربية على اتفاقية لوزان التي أقرت بحدود تركيا الحالية. وعليه، لولا اتفاقية لوزان لما كانت تركيا الحالية فعلا، ولما أصبح أردوغان رئيسا لها كما قلنا. ومن هنا، فـإن السؤال الجوهري هو: لماذا يطالب أردوغان بالتخلص من لوزان والعودة إلى المثياق الملي؟ الجواب المختصر على السؤال، هو روحه العثمانية الاستعمارية، فالميثاق الملي يعني باختصار احتلال أراض في الشمال السوري والعراقي، على شكل قوس يمتد من إدلب في شمال غرب سوريا إلى كل شمال العراق وإقليم كردستان مرورا بمدن ديرالزور والرقة والموصل وكركوك وصولا إلى السليمانية، ولعل هذا ما يفسر التلميحات التركية الصريحة إلى حقوق تاريخية في الموصل العراقية وشمال سوريا، مقرونا بالحديث عن العثمانية الجديدة، وهي عثمانية تصل حدودها إلى ما يجري في ليبيا حاليا، ومن تصعيد للصراع مع اليونان على بحري إيجه والمتوسط، بل وتهديدات تركيا لكل دولة تنتقد أو تقف ضد مشروع أردوغان العثماني،الذي يريد قلب حدود الدول والاعتداء على سيادتها وإعادة شعوبها إلى عهد الاستعمار العثماني، إذ أن العودة إلى الميثاق الملي تعني الانقضاض على جميع الاتفاقيات الدولية التي رسمت الحدود بين تركيا ودول الجوار الجغرافي لها، لصالح حالة استعمارية جديدة.
في التوقيت، لا يمكن فصل دعوة أردوغان إلى التخلص من لوزان عن التورط التركي في سوريا ومصر في عهد مرسي وصولا إلى ليبيا والصومال وقطر وتونس...، فثمة لحظة اعتقد أردوغان فيها أن التطورات الجارية في العالم العربي توحي له بإمكانية تحقيق أحلامه العثمانية، مستفيدا من دور موقع تركيا في الخلافات بين روسيا والولايات المتحدة... قبل أن يتلقى أردوغان ضربة قاصمة لمشروعه الإقليمي في مصر، عندما انتفض الشعب المصري ضد حكم الإخوان في عهد مرسي، ويخرج أردوغان من حلب السورية خالي الوفاض، ومن ثم تتلقى الجماعات الإخوانية الهزيمة تلوة الأخرى، وهو ما جعل أردوغان يعتمد علنا على الجماعات الإرهابية والمرتزقة لتحقيق أجندته ويتورط أكثر في معادلة الدم، ويحول المتوسط إلى ساحة صراع إقليمية ودولية.
يظن أردوغان أنه عرف كيف يستغل الفوضى الناشئة في المنطقة عقب ما سمي بثورات الربيع العربي، ولكن تناسى أن دولته ليست قوة عظمى، وأنها دولة عاجزة حتى عن حل أبسط مشكلاتها الداخلية، وعليه فإن أوهام أردوغان بالتخلص من لوزان لصالح العودة إلى الميثاق الملي، أي احتلال أراضي سورية وعراقية وليبية ... ليست سوى أوهام ولدتها الفوضى، فقضية تغيير الاتفاقيات الدولية أكبر من قدرة تركيا وحجمها وأحلام سلطانها، تلك الأحلام التي ورطت تركيا في حروب لا نهائية إلى درجة لا أحد يعرف كم حربا يحتاجها أردوغان كي يرمم شعبيته في الداخل، وعليه ثمة من يرى أن حديث أردوغان عن لوزان كما حصل مع آيا صوفيا، بات حاجة داخلية لنظامه بعد أن فقد شعبيته، وتفكك حزبه، وتفاقمت أزماته، وسط تطلعه إلى بناء نظامه السياسي في الداخل وفق منظومته الأيديولوجية من جديد، خاصة بعد أن تعالت أصوات المعارضة بالمطالبة برحيله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة