فكرة العثمانية تحولت إلى هدف عالي الأهمية في السلوك الدولي التركي خصوصا مع دول العالم الإسلامي
الانتهازية والتعامل البرجماتي الذي يوظف الدين لأغراض ومصالح خاصة أمر قديم قدم الأديان ذاتها، فعادة يكون هناك الكثير من الشطار والعيارين الذي لا قدسية لشيء عندهم إلا لمصالحهم وأهدافهم الخاصة.
حتى في التعامل مع القرآن الكريم ذاته؛ هناك من يوظف آياته لتبرير مواقف معينة، وإضفاء الشرعية على مصالح، وأفعال غير شرعية، بل قد تكون على العكس تماما من قيم الشريعة ومقاصدها العليا.
وقد نبه إلى ذلك واحد من أعظم فقهاء الإسلام أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي المتوفى 1194م، والذي فرق في كتابه "الموافقات في أصول الشريعة" بين نوعين من رجوع الفقهاء إلى القرآن الكريم هما: رجوع الافتقار ورجوع الاستظهار.
الأول: يرجع فيه الفقيه إلى كتاب الله سبحانه باحثا عن الحكمة، ومفتقرا للحلول والإجابات، والثاني يرجع فيه الانتهازي للبحث عن آية تبرر له ما يريد أن يقول، أو يصل إليه، أو تحقق له مصالحه، وقد وصفه الشاطبي بصورة بليغة حيث شبه هذا النمط من التفكير بأنه يمتطي ظهر النص المقدس للوصول إلى أهدافه ومراميه.
منذ وصول أردوغان وحزبه إلى سدة الحكم في تركيا، وتمكنهم من تصفية الخصوم الداخليين؛ وهناك نزوع عنيف لإحياء كل ما له علاقة بالدولة العثمانية
وفي عصرنا الحاضر الذي أتاحت وسائل التواصل فيه إمكانيات غير مسبوقة؛ نشهد أضخم وأوسع واقبح عملية استظهار بمعنى "ركوب ظهر الإسلام"، وامتطاء قيمه ومثله النبيلة لتحقيق طموحات شخصية لمن تضخمت ذواتهم إلى حدود التأله، ومنازعة الخالق في كبريائه وجبروته، أو طموحات حزبية تحركها عقليات هي أقرب لفكر العصابات منها للقيم الدينية، أو طموحات قومية تدفعها نزعات عنصرية، وغرور عرقي، واستعلاء ينزع عن الاخرين حق الوجود.
كل هذا الثلاثة اجتمعت في النموذج التركي تحت قيادة أردوغان، والذي أصبح يوظف كل تاريخ الإسلام، وكل مشاعر الإيمان، وكل رموز الدين لتحقيق حلمه في إعادة السلطنة، وتحقيق حلم جماعته الفاشلة، وتغذية الاستعلاء العنصري التركي الطوراني على حساب جميع الشعوب التي تشكل منها حوض الحضارة الإسلامية على مر الأربعة عشر قرنا من الزمان.
منذ وصول أردوغان وحزبه إلى سدة الحكم في تركيا، وتمكنهم من تصفية الخصوم الداخليين؛ وهناك نزوع عنيف لإحياء كل ما له علاقة بالدولة العثمانية؛ ليس على مستوى الداخل التركي؛ فهذا حقه وحق شعبه عليه، وقد كان متوقعا منه أن يفعل ذلك بإعادة ربط التركي بتاريخه وتراثه من خلال إعادة كتابة اللغة التركية بالحرف العربي؛ مثلما كان الحال قبل وصول مصطفى كمال أتاتورك للحكم عام 1923.
ولكن للأسف لم يفعل ذلك، فلم يهتم كثيرا بإعادة إحياء التراث العثماني داخل تركيا؛ بل صار ملهوفا إلى حد الجنون بإعادة إحياء، وتجديد أي أثر للعثمانيين في أي بقعة من بقاع العالم الإسلامي، حتى ولو كان هذا الأثر لا قيمة تاريخية له، ولا وزن حضاري لوجوده، وليس أكثر من مطبخ طعام، أو سقيا ماء .. المهم أن يكون هناك ما يثبت أن العثمانيين كانوا هنا.
كذلك ربطت تركيا أردوغان كل نشاطاتها ذات الطبيعة الدينية عالميا بالرموز العثمانية، فلا تبرعات لمساجد إلا إذا أجبر أصحابها أن يصمموها على الطراز العثماني، حتى لو كانت تلك المساجد في نيوزيلندا أو غانا.
فقد تحولت فكرة العثمانية إلى هدف عالي الأهمية في السلوك الدولي التركي خصوصا مع دول العالم الإسلامي.
بل يمكن القول إن العثمانية في المرحلة الأخيرة صارت هي الهدف الأسمى للسياسة الخارجية التركية في سبيل تسويق الفكرة العثمانية التي تمثل حلم أردوغان في الهيمنة السياسية، أو الروحية على العالم الإسلامي تم توظيف كل الشعارات "الإسلامية"، من الدولة والخلافة والأمة والحضارة والعمارة... إلخ.
وتم تسخير جيوش من أنصاف المثقفين والمثقفات العرب المقيمين في تركيا، أو في قطر للقيام بحملات دعائية تأخذ صوراً وأشكالا فكرية، وبحثية وثقافية لتحقيق هدفين هما: أولا: تبييض الوجه القبيح للدولة العثمانية، ومحاولة إضفاء طابع الإسلامية عليها من جانب، وتزييف التاريخ بإنجازات وإسهامات حضارية نبيلة هي أبعد ما تكون عن الدولة العثمانية التي قامت على النهب والقتل والاستيلاء، ونشر قيم التخلف والرجعية في كل البقاع التي تم إخضاعها بقوة السلاح.
ومن أكثر المضحكات في هذا الصدد الحديث عن التكايا العثمانية؛ التي كانت تطعم الفقراء، مع العلم أن انتقال الأموال والثروات طوال تاريخ الدولة العثمانية كان في اتجاه واحد؛ من الأقاليم إلى إسطنبول، ولم يشهد التاريخ حركة عكسية، فلم تخرج أموالا من إسطنبول إلى أي إقليم تابع لها حتى ولو كان في مجاعة أو يوشك على الهلاك.
وثانيا: توظيف كل قيم ورموز الإسلام، وكل الشعارات الإسلامية لإضفاء الشرعية على السلوكيات العدوانية والتخريبية التي يقوم بها نظام أردوغان في مختلف مناطق العالم العربي من سورية إلى ليبيا...إلخ.
هذه الحملة الدعائية الشرسة التي تشبه إلى حد كبير حملات الدعاية النازية والشيوعية يقوم بها للأسف من تحتقرهم تركيا، ولا تحترم ثقافتهم ولا هويتهم، فهم عرب ثقافة ولغة، لكنهم يسبحون ليل نهار بحمد العثمانيين، وينسبون إليهم كل فضل على مجتمعاتهم وشعوبهم، فكل إنجاز تحقق في مصر أو الشام أو شمال إفريقيا أو اليمن في نظر هؤلاء كان بسبب العثمانيين، وهو كذب تاريخي لا يمكن إثباته؛ يتم توظيفه لتمرير مشروع سياسي ضد مصالح أوطانهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة