كيف يسعى أردوغان إلى توريط تونس في الأزمة الليبية؟
قطاع عريض من التونسيين يرى أن اتفاق السراج وأردوغان ما هو إلا إعادة الاستعمار العثماني إلى منطقة المغرب العربي
تعيش تونس خلال الأيام الأخيرة حالة من الاحتقان السياسي والاجتماعي، تتمحور حول الموقف الرسمي من الوضع في ليبيا، ورفض الزج بالبلاد في الحرب بطرابلس التي مزقتها الفوضى ونشاط المليشيات الإرهابية.
ويأتي الرفض في ظل ارتباك الدبلوماسية التونسية في إدارة الموقف بحكمة مثلما تعودت على ذلك منذ الاستقلال، بما جعلها تظهر في موقع المساند لحلف ليبي على حساب حلف ليبي آخر، الأمر الذي يضع أكثر من استفهام بشأن طبيعة الصراع على الثروات في ليبيا.
ملابسات زيارة أردوغان
بدأت حالة الاحتقان في تونس بعد استقبال قيس سعيد، رئيس الجمهورية التونسية، لرئيس حكومة الوفاق الوطني الليبي فايز السراج، ثم استقبال وفد من القبائل الليبية تبين فيما بعد أنهم لا يمثلون القبائل بعد أن أصدرت هذه القبائل بيانا تستنكر فيه من انتحلوا صفتها.
واعتبر مراقبون أن الموقف الرسمي حينها بدأ يتجه نحو حلف تركيا على حساب الشق الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر، والذي يتخذ من مدينة بنغازي مقرا له.
وبلغت حالة الاحتقان أشدها في تونس إثر الزيارة المفاجئة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 25 ديسمبر/كانون الأول الجاري. ورافقت هذه الزيارة المفاجئة للرئيس التركي والوفد الخطير الذي يرافقه تساؤلات أخطر حول الملف الليبي، لا سيما وقد راجت معلومات تفيد بأن اتفاقيات قد يتم التوقيع عليها تتعلق أساسا بتمكين الجيش التركي من قاعدة برية على الحدود المتاخمة لليبيا، إضافة إلى تمكين بوارج بحرية تركية من الرسو بميناء "الكتف" الواقع بين مدينة بنقردان وميناء مدينة جرجيس، مع توفير فضاءات خاصة بالصيانة العسكرية.
وفي الوقت الذي بقيت فيه هذه المعلومات في مستوى غير رسمي، فإن الأمر أخذ أبعادا شبه مؤكدة بعد أن خرج الرئيسان التونسي والتركي في مؤتمر صحفي ليعلنا أنه من بين ملفات المحادثات بحث سبل ترويج زيت الزيتون التونسي والتمر في تركيا وفي أسواق أخرى تصدر لها هذه الأخيرة. وهو ما اعتبره المتابع التونسي "استبلاها" للشعب، إذ لم يكن ضمن الوفد المرافق لأردوغان وزراء التجارة والفلاحة، بل وزير الدفاع الوطني ووزير الخارجية ورئيس جهاز المخابرات. فالزيارة والجلسة كانتا كأنهما إعلان حرب، وليس مجال استثمار وتصدير. وقد حاول أردوغان خلال المؤتمر الصحفي الإقناع بتوافق الموقفين التونسي والتركي بشأن الوضع في ليبيا.
- حزب تونسي يطلب جلسة برلمانية لمعرفة "خفايا" زيارة أردوغان
- حقوقية تونسية: بلادنا يجب ألا تكون جسر أردوغان لدعم مليشيات ليبيا
رفض سياسي وشعبي
هذا التمرير التركي لموقف خطير بشأن ليبيا، الجارة لتونس، جعل المجتمع المدني والمنظمات الوطنية والنقابات وبعض الأحزاب السياسية تتحرك بقوة، مطالبة رئاسة الجمهورية بإعلان موقف رسمي واضح وشفاف وصريح، يعكس استقلالية القرار الوطني السيادي التونسي بشأن الحرب المتوقعة في ليبيا بعد أن أبرمت حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج اتفاقا ثنائيا مع تركيا، صدق عليه برلمان طرابلس بعد مصادقة برلمان تركيا أيضا.
وهو اتفاق يرى طيفٌ واسعٌ من المجتمع التونسي أنه يعيد الاستعمار العثماني إلى منطقة المغرب العربي، في ضوء ما تعيشه من انهيار وغياب مؤسسات الدولة.
وبموجب هذا الاتفاق يستعد أردوغان لعرض قانون على البرلمان التركي يتيح التدخل العسكري المباشر في ليبيا أرضا وبحرا وجوا.
ويبدو أن أردوغان ألح خلال زيارته المفاجئة إلى تونس على استيضاح الموقف الرسمي التونسي من التدخل العسكري التركي في ليبيا، ومدى مساعدة تونس للأتراك عبر تسهيل إدخال الأسلحة والمقاتلين الدواعش والمعدات الثقيلة عبر مطار جربة وميناء جرجيس ثم عبر الحدود البرية في "راس جدير" وغيرها.
هذا الغموض في الموقف الرسمي التونسي جعل الفاعلين يتحركون بسرعة ويطالبون بأن يكون حسم الموقف التونسي بشأن الحرب على ليبيا داخل مجلس نواب الشعب، مع التأكيد على احترام الدستور الذي ينص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان، لا سيما ليبيا التي تجمع بين شعبها وشعب تونس علاقات قرابة ومصاهرة قديمة وكبيرة، إضافة إلى عمق المبادلات الاقتصادية والتجارية، ووجود مئات آلاف الليبيين في تونس، ومئات آلاف التونسيين في ليبيا.
وفي خضم الغليان في الشارع التونسي، وصدور بيانات عدة عن التنظيمات النقابية والأحزاب السياسية، زاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سكب الزيت على النار، إذ قال في تصريحات صحفية في 26 ديسمبر 2019: "اتفقنا مع تونس على دعم حكومة السراج، وقواتنا ستصل إلى ليبيا مع مطلع العام الجديد".
وفي السياق نفسه أيضا، صرح راشد الغنوشي، رئيس مجلس نواب الشعب التونسي ورئيس حركة النهضة، لوسائل الإعلام، بـ"أن تونس لا يمكنها إلا أن تدعم حكومة فايز السراج".
موقف حكومة فايز السراج عمّق الأزمة في تونس، فقد أقام وزير الداخلية الليبي في اليوم نفسه 26 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ندوة صحفية في فندق في العاصمة تونس، وليس في طرابلس. وقال فتحي باش آغا، وزير داخلية حكومة الوفاق الوطني: "إذا سقطت طرابلس ستسقط العاصمة تونس كذلك". وهو تصريح خطير للغاية، جعل المتابعين يعتبرونه إيحاء بأن تونس قررت أن تكون من جانب حكومة السراج، وشبه تهديد غير مباشر لاستقرار تونس وأمنها.
الشارع التونسي ازداد يقينا من المعلومات التي تروج بشكل غير رسمي للموقف التونسي بشأن مناصرة حلف السراج تركيا على حساب حلف خليفة حفتر، وشدد من حملات التنديد بمؤسسة رئاسة الجمهورية. ودعا المجتمع المدني إلى تنظيم مظاهرات شعبية عارمة، ترفع شعار عدم الزج بتونس في حرب ضد ليبيا، وتحذر السلطات الثلاث (رئاسة الجمهورية، والحكومة، ومجلس نواب الشعب) من مخاطر اصطفافها مع حكومة السراج، التي يعتبرها أغلب التونسيين مُنصبة من الخارج وحليفة للإخوان وغير ممثلة للمجتمع الليبي بكل مكوناته ومناطقه.
بعض الأحزاب السياسية سارعت إلى اتخاذ مواقف رافضة لزيارة أردوغان إلى تونس، ومنددة باصطفاف تونس خلف حلف يسعى إلى فرض منطق الحرب الأهلية في ليبيا عوض منطق الحوار وإيجاد الحلول السلمية. أول هذه الأحزاب الحزب الدستوري الحر برئاسة عبير موسى "المعروفة بعدائها العلني لتنظيم الإخوان الإرهابي"، وحزب مشروع تونس برئاسة محسن مرزوق، وحزب العمال برئاسة حمة الهمامي. أصدرت هذه الأحزاب بيانات تطالب رئاسة الجمهورية بتوضيح حول زيارة أردوغان، وحول إمكانية تورط تونس في تدخل عسكري تركي على الأراضي الليبية.
الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية العريقة، وصاحب جائزة نوبل للسلام، اتخذ موقفا قويا عبر بيان صدر مساء 25 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وعبر تصريحات إعلامية للأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي ردا على تصريح الرئيس التركي الذي أعلن عن اتفاقه مع تونس على دعم حكومة السراج في ليبيا، خلال زيارته لتونس.
فقد حذر الأمين العام للاتحاد "من خطورة الاصطفاف وراء أحد المحاور الإقليمية المتنازعة في ليبيا"، وأكد ثقته بـ"عدم اختيار رئيس الجمهورية لهذا النهج الخطير على تونس، والمتعارض مع أخلاقيات العمل السياسي في البلاد".
وشدد الطبوبي، على هامش انعقاد الجامعة النقابية للمرأة والشباب في مدينة الحمامات، على أنه "لا يمكن في أي حال استغلال الموانئ والمطارات والمعابر التونسية في التآمر على الشعب الليبي"، مؤكدا أن التونسيين بمختلف مكوناتهم يرفضون أي استغلال من هذا النوع.
ولفت الطبوبي إلى ثقة التونسيين بمؤسسات بلادهم الدستورية وجيشهم وأمنهم الوطني في وجه المؤامرات ضد الشعب الليبي، على اعتبار تقاطع مصلحة الشعبين الشقيقين. كما اعتبر أن من مصلحة الشعب الليبي أن يبتعد على الاقتتال، وأن يتمسك بالحوار ضمانا لوحدة أراضيه وحفاظا على ثرواته.
كل هذا الضغط الشعبي والتنظيمي القوي والسريع في الشارع والإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي المندد بموقف رئاسة الجمهورية جعل الرئيس قيس سعيد يخرج عن صمته، ويستغل جلسة عمل مع الفلاحين في 26 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ليصرح قائلا: إن تونس لن تقبل بأن تكون عضوا في أي تحالف أو اصطفاف على الإطلاق، ولن تقبل بأن يكون أي شبر من ترابها إلا تحت السيادة التونسية وحدها".
تصريح الرئيس التونسي زاد الأمر تعقيدا بشأن الموقف الرسمي التونسي. فالرئيس التركي أردوغان من جهة أولى وحكومة فايز السراج من جهة ثانية يؤكدان مساندة الرئاسة التونسية لحلفهما في نشر قوات تركية على الأراضي الليبية. وهو ما أكده رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، في موقف مخالف تماما لرئيس الجمهورية. هذا، ما يجعل البعض يتساءل: مَن نصدق الآن؟
تداعيات الموقف الرسمي التونسي ما زالت ستتعقد مع ازدياد الاحتقان الشعبي الرافض للاصطفاف خلف حلف معين، والمتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي تجاه الإخوة الفرقاء في ليبيا.
زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى قصر قرطاج في تونس لم تقف عند حد المسألة الليبية، بل تجاوزته إلى التنديد الواسع بما أتاه من تصريحات اعتبرها التونسيون إهانة لبلادهم. إذ قال أردوغان، في المؤتمر الصحفي "إنه يشتم رائحة كريهة في قصر رئاسة الجمهورية بقرطاج"، وذلك بحضور رئيس الجمهورية قيس سعيد وأمام عدسات الإعلام العالمي. الرئيس التونسي، لم تكن له بديهة الرد الفوري القوي على إهانة وُجهت له ولمؤسسته وبلاده، ولحقت شعب تونس بأكمله.
ختاما، يطرح الوضع الآن تساؤلات عدة: ماذا تحمل الأيام القادمة للعلاقات التونسية الليبية تحديدا في ضوء إصرار تركيا على النزول على الأراضي الليبية تحت عنوان تطبيق بنود الاتفاق مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس وفي ضوء تقدم قوات المشير خليفة حفتر نحو طرابلس ونحو المراكز الحدودية الليبية مع تونس؟
وهل يبقى للحوار مجال مع بدء اشتغال آلات الحرب بأزيزها الذي سيفرض تهجير الملايين من الليبيين نحو الحدود، مثلما حدث عام 2011 على الحدود التونسية الليبية؟