أردوغان الذي قال إنه ذاهب لواشنطن لإبلاغ تحفظات تركيا وقلقها، رأيناه يقف أمام ترامب يشيد باختياره رئيساً لأمريكا
يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قصد البيت الأبيض لوضع نقطة على السطر في مسار ومستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين كما قال ، بدّل رأيه وقَبِل بوضع فاصلة أخرى والتريث لمعرفة نتائج التفاهمات التي تم الاتفاق حولها مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب ومدى حظوظها في التطبيق على أرض الواقع ورغبة التزام الطرفين بها .
أسس قانون التفاوض وصلب الأعراف الدبلوماسية مبنية كلها على منطق المساومة والمقايضة :
- إذا ما أردت أن تأخذ فلابد أن تعطي، وهذا ما أقنع أردوغان بمراجعة مواقفه التي أعلنها قبل مصافحة ترامب عند مدخل البيت الأبيض .
- بمقدورك أن تتمسك بخطوطك الحمراء ولكن قوة ونفوذ وقدرات الطرف الجالس في المقابل هي التي ستحدد أيضا إذا ما كانت ستمنحك هذه الفرصة أم لا ؟.
أردوغان الذي كان يقول إنه ذاهب لإبلاغ التحفظات والقلق التركي، رأيناه يقف أمام ترامب ليشيد باختياره رئيساً لأمريكا وأهمية ذلك في دعم خطط الأمن والاستقرار الإقليمي .
بعد أيام فقط سنعرف إذا ما كان التصلب التركي في مواضيع مثل رفض الموقف الأمريكي من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا وقرار تسليحه وتجهيزه لمحاربة تنظيم داعش في الرقة، والتمسك بإعادة فتح الله غولن المتهم بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا الذي توفر الولايات المتحدة الحماية له ولكبار كوادره تراجع تماماً لصالح الإشادة المشتركة بتاريخ العلاقات بين البلدين وضرورة حمايتها واستمراريتها أم لا.
كلام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو وهو يقيم نتائج اللقاءات التركية الأمريكية يقودنا إلى محصلة أن تركيا ستتغاضى عن تمسك الادارة الأمريكية بإرسال الأسلحة الثقيلة إلى الوحدات الكردية في شمال سوريا، لكن الضمانات التي سيقدمها البيت الأبيض لأنقرة فيما بعد تحرير الرقة، وخطة واشنطن في شمال سوريا هي التي ستحدد الموقف التركي لاحقا .
بعيداً عن الأضواء ربما قد تكون المفاوضات التركية الأمريكية شاقة وصعبة كما قال ترامب، لكن عروضاً محتملة من الممكن أن تكون واشنطن قدمتها لتركيا في موضوع عدم استخدام السلاح المرسل إلى الأكراد ضدها، والالتزام بوعد سحب مقاتلي الوحدات الكردية من منبج، والضغط باتجاه القطع النهائي بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني . مؤشر الكشف الأمريكي عن المحرقة التي تقول واشنطن إن الأسد ارتكبها ضد شعبه يعني أن ترامب جدّي هذه المرة في قرار الإطاحة بالنظام السوري على عكس ما قاله وما فعله سلفه أوباما .
الحلول الوسط هي التي حسمت المفاوضات التركية الأمريكية وبينها اعتماد واشنطن على دعم الوحدات الكردية لها في معركة الرقة ضمانات لأنقرة بمراقبة انتشار وتوزيع الأسلحة الثقيلة المقدمة لحلفائها المحليين وسحبه لاحقاً ومنع استخدامه في إطار مشروع كردي انفصالي في شمال سوريا ، هذا إلى جانب عدم استبعاد سيناريو قبول أنقرة المشاركة في معركة الرقة أو دعمها بهدف تقليل ارتدادات النتائج السياسية والأمنية لما بعد هذه المعركة عليها كما حدث في العراق عام 2003 .
أردوغان يخرج من لقائه الثنائي مع ترامب ليقول إن تركيا تشكر الإدارة الأمريكية على دعمها لها في محاربة التنظيمات الإرهابية لاسيما تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني، لكنه أعلن أنه اتفق مع ترامب على الخطوات المشتركة التي يمكن اتخاذها في سوريا والعراق مما يعكس حقيقة أن واشنطن قدمت لأنقرة الكثير من الضمانات وبددت الكثير من قلقها في موضوع رسم الخرائط والدور الكردي فيها.
بين المواضيع التي تمت التفاهمات بشأنها أيضا، قضية توسيع رقعة المنطقة الآمنة التي تريدها تركيا في شريط من شمال سوريا لتشمل منبج . وانسحاب «قسد» من تل رفعت والبلدات المجاورة لها بأمر أمريكي، والتطمينات التي أرسلها وزير الدفاع الأمريكي ماتيس إلى الأتراك بعدم بقاء الوحدات الكردية في الرقة بعد تحريرها وهي كلها خطوات حسن نية أمريكية نحو تركيا ستأخذ الأخيرة بها .
تركيا لن تغامر بقرارت تصعيدية استفزازية مثل التلويح بإغلاق قاعدة "انجرليك" والدخول عسكريا إلى عفرين ومنبج إلا إذا شعرت أن ادارة ترامب حسمت مواقفها في اعتماد سياسة سورية تتعارض تماما مع سياسة أمريكية لا تأخذ سوى مصالحها وحدها بعين الاعتبار وهذا ما لم نلحظه خلال المحادثات الأمريكية التركية .
أنقرة بمقدورها التصعيد لو شاءت لكنها تعرف أن الثمن سيكون باهظا، لذلك هي رجحت التريث والانتظار مرة أخرى .
كل طرف ذكّر الآخر بموقعه ودوره وحجمه وبما يملكه من أدوات ووسائل ضغط ونفوذ وتأثير لا يجوز تجاوزها أو الإخلال بها .
كل جانب أعلن حاجته إلى الطرف الآخر وأبلغه أن أجواءه وظروفه الداخلية تفرض عليه عدم التفريط بشريكه الاسترتيجي وأنه لا يريد أن يتحمل مسؤولية " نقطة على السطر " إلى جانب حقيقة صعوبة حماية المصالح الإقليمية دون التنسيق مع الحليف المفترض.
لا أحد يريد أن يكون البادئ في الذهاب نحو القطيعة
أردوغان أراد قبل توجهه إلى البيت الأبيض أن يبعث رسالة تذكارية إلى نظيره الأمريكي، وهي صورة التقطها على هامش القمة الصينية الدولية الأخيرة وهو يقف بين الرئيسين الصيني والروسي . لكنه عاد وبدّل من رأيه بعد ساعات فقط عندما أخذ يتحدث عن ميلاد جديد في مسار العلاقات التركية الأمريكية . فما هو السبب ؟
أردوغان يقول إن قناعته هي أن اللقاء مع ترامب سيعزز أكثر من العلاقات والتحالف الاستراتيجي القديم، وترامب يقول لا يمكن لأردوغان أن يتجاهل قراراته المالية والعسكرية الأخيرة التي تحمل أوامر تحضير الجيش الأمريكي لخوض المعارك على أكثر من جبهة عسكرية إقليمية، وزيادة الموازنة العسكرية الأمريكية بنسبة 20 بالمائة ، حيث أن ترامب لا يريد الذهاب إلى مواجهات من هذا النوع دون أن يرى تركيا إلى جانبه، فهو لن يكرر الخطأ الذي ارتكبه جورج بوش عام 2003 في العراق الذي تسبب في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم، خاصة وأن الظروف والأجواء بالنسبة لتركيا اليوم تختلف تماما مع ما كانت عليه قبل 14 عاما .
احتمال كبير أن تكون واشنطن أقنعت أنقرة بجديتها في التصدي لسياسة إيران الاستفزازية التصعيدية وأن الملف الإيراني أيضا سيكون له الأولوية على الكثير من الملفات الثنائية والإقليمية، وأن الملف سيطرح قريبا على طاولة النقاش بين البلدين بكافة تفاصيله وخياراته وبدائله العسكرية ، خصوصا وأن طهران تسلمت الرسالة الأمريكية بأنها ستكون الهدف الاستراتيجي الإقليمي الأول للإدارة الأمريكية الجديدة .
بين ما دفع أردوغان لمراجعة حساباته ومواقفه ربما هو تحضيرات القمة الإسلامية الأمريكية المرتقبة في الرياض، حيث لا يمكن لتركيا هنا أن تأخذ مصالحها هي وحدها بعين الاعتبار متجاهلة الجهود التي تبذلها السعودية والامارات باتجاه إقناع الإدارة الأمريكية بأهمية التنسيق الإقليمي والدولي ضد التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وضرورة التصدي لسياسة إيران التوسعية والاستفزازية والتي ينتقدها الرئيس التركي نفسه .
الرئيس الأمريكي يحتاج إلى نصر ما في المنطقة يزيل رواسب وآثار ما خلفه سلفه أوباما، ولا يمكن لتركيا عرقلة ذلك بل على العكس فمن مصلحتها فتح الطريق أمامه إذا ما كانت تريد أن تأخذ مصالحها الاقليمية بعين الاعتبار .
تركيا لن تسعى إلى تعكير العلاقة مع إدارة ترامب وسوف تحاول التصالح، ولكن ستحاول من جهة أخرى الضغط على واشنطن للحصول على ضمانات بعدم السماح لقيام أي كيان كردي في الشمال السوري.
العلاقات التركية الأمريكية التي رفعت شعار الشرق الأوسط الجديد والتغيير في المنطقة وتبنت العديد من ثورات الربيع العربي والتي بلغت ذروتها عام 2009 عندما أعلن باراك أوباما أن العلاقة بين البلدين هي "شراكة نموذجية"، أمام امتحان من نوع آخر هذه المرة مع هذه البداية الشاقة والصعبة كما وصفها ترامب
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة