الدولة التركية وشعبها والتي يعرفها الرأي العام العالمي منذ سقوط الخلافة العثمانية ليست هي تركيا التي يحاول أن يروج لها أردوغان
يفهم من كلام الرئيس التركي أردوغان، خلال كلمة ألقاها خلال مشاركته في مراسم تدشين طريق بري بولاية إزمير غربي تركيا، مؤخراً، من أن سياسات بلاده في سوريا وليبيا "لا خيار عبثياً فيها"، مضيفاً: "إذا تهربنا من خوض النضال الثمن سيكون باهظا مستقبلا"، أنه يرفض أي انتقاد لما يقوم به من تدخلات في شؤون دول الجوار الجغرافي لتركيا، بل الغريب أن يصف ما يقوم به هو بأنه "نضال" من أجل أن تتبوأ بلاده المكانة التي تستحقها في المنطقة.
لا نحتاج إلى كثير من المقدمات لمعرفة مضمون ما يطرحه أردوغان، سواءً كان في تصريحاته الأخيرة بعدما اشتد عليه الخناق السياسي، أو غيرها فيما يخص العلاقات مع دول الجوار وباقي دول العالم، بأنه يتعارض تماماً مع الفكر الاستراتيجي الذي كان يتبناه سياسيو حزب العدالة والتنمية الذي بسببه فاز الحزب بالسلطة والمعروفة بسياسة "صفر مشاكل".
تلك السياسة التي وضعها من رافقوا أردوغان وساعدوه في الوصول إلى سدة الحكم؛ وعلى رأسهم أستاذ العلاقات الدولية ومنظر الحزب أنذاك، أحمد داود أوغلو، الذي أصبح فيما بعد وزيراً للخارجية التركية، قبل أن يستقيل من منصبه بسبب اختلافه مع سياسات أردوغان وغطرسته الإقليمية التي جعلت من تركيا اليوم بـ"صفر حليف" كأنه أعاد صياغة النظرية.
على كل، فإن حالة التجاذب السياسي بين الرئيس أردوغان مع القوى السياسية في الداخل التركي -بما فيهم أصدقاؤه السابقون في حزب العدالة والتنمية الذين صنعوا قصة نجاح تركيا معه اقتصادياً وسياسياً حتى كانت واحدة من أفضل الدول في العالم في مجال النمو- لا تختلف مع حالة الامتعاض التي تواجهها سلوكياته من الدول العربية التي كانت ترتبط معها بعلاقات جيدة ويمكن وصفها بالممتازة.
كما لا تختلف مع انزعاج جواره في البحر المتوسط مثل اليونان وقبرص، بل إن الأمر يصل إلى الغضب الدولي؛ سواءً من دول الاتحاد الأوروبي التي ما زال يستخدم معها "ورقة المهاجرين" بتهديدهم وابتزازهم في سياسة أقرب طريقة رجال عصابات المافيا، إلى أن وصل الأمر إلى "روسيا بوتين" الذي أكد أنه يجيد فن ترويضه حتى الآن، وقد بدأ صبره ينفد من عنجهيته وعناده.
ومع أنه لا تجوز المقارنة بين تجربة سياسية وأخرى في ظل ظروف دولية، ومع ذلك فإن المغامرات السياسية في منطقتنا وغيرها كانت السبب في تدمير قصص نجاح تنموية لدول معروفة في المنطق.
من مفارقات سياسة أردوغان أن العلاقات التركية مع الجوار العربي كانت تمر في أفضل حالاتها منذ وصول حزب العدالة والتنمية، خصوصا سوريا ومصر، أما اليوم فهي تمر بأسوأ مراحلها، مع أن الاعتقاد الذي كان سائداً أن تركيا ستجد هويتها السياسية في المشرق العربي أكثر بدلاً من رفضها في أن تكون ضمن الدول الأوروبية لعوامل كثيرة، كما أنها طرحت باعتبارها جسرا بين الغرب والشرق، اليوم وبسياسات أردوغان لا تجد لنفسها مكاناً.
المعنى أن الدولة التركية وشعبها والتي يعرفها الرأي العام العالمي منذ سقوط الخلافة العثمانية ليست هي تركيا التي يحاول أن يروج لها أردوغان في "نضالاته" السياسية ويستخدمها لتحقيق طموحاته وأحلامه.
وأنه إذا كان الخارج التركي يعمل على حماية نفسه من مغامرات أردوغان السياسية وأحلامه العثمانية باستخدام بعض التنظيمات الإرهابية مثل جماعة "الإخوان المسلمين" خلال فترة ما بعد "الربيع العربي"، فإن الداخل التركي هو الآخر يحاول التصدي لتلك الرغبات "الجنونية" التي قد تؤدي بالدولة التركية إلى ما لا يحمد عقباه، كما فعل بعض من قادة الدول في إقليمنا الشرق أوسطي.
لقد تأكد فشل "فهلوة" أردوغان السياسية خارجياً بعد أن كشفه الإنسان العربي من خلال استخدام العاطفة الدينية لخدمة مخططاته وأهدافه الحقيقية المتمثلة في إلغاء الدولة الوطنية من أجل إعادة "الخلافة"، ولجأ في ذلك إلى تجنيد مرتزقة ينتمون إلى تنظيم القاعدة وفق تسميات تختلف وفق الأهداف من "جماعة النصرة" إلى "هيئة تحرير الشام".
ولكن يبدو أنه مستمر في سياسة جر تركيا وشعبها إلى الهاوية من خلال الاصطدام بالمجتمع الدولي الذي لم يعد يحتمل "غطرسته" التي بدأت تظهر من خلال مواجهته مع الرئيس الروسي بطريقة أكبر وأوسع في سوريا، وبالتالي قد يتسبب في مواجهة مباشرة؛ ليس مع الجيش السوري وإنما مع روسيا نفسها.
ومع أنه لا تجوز المقارنة بين تجربة سياسية وأخرى في ظل ظروف دولية، مع ذلك فإن المغامرات السياسية في منطقتنا وغيرها كانت السبب في تدمير قصص نجاح تنموية لدول معروفة في المنطق. قد يكون وضع الرئيس أردوغان حالياً مختلفا وعلاقاته مع اللاعبين الدوليين مختلفة، بل إن قواعد اللعبة أيضاً مختلفة عن كثير من المغامرين السياسيين، لكن هل يستفيد أردوغان من دروس التاريخ؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة