لا تزال حالة الشد والجذب بين الإدارة الأمريكية وإيران قائمة بشأن التوصل لنقطة بداية لاستئناف التفاوض في ظل تمسك كل طرف.
بما يطرحه من رؤية وتصور قائمين على التشدد والتصلب في الطرح، وهو أمر مشروع في التفاوض، خاصة أن المراوغات الإيرانية طالت كثيراً منذ إدارة الرئيس السابق ترامب، واستمرت حتى الآن في ظل مساعٍ إيرانية تدفع بقوة لرفع العقوبات الأمريكية، وإلا فإنها ستمضي في طريقها وتتحرر من قيود الاتفاق النووي بالكامل، وعدم الالتزام بما تم التوافق بشأنه مع الجانب الأوروبي، إثر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، واستمرار الضغط الأوروبي في العمل مع إيران ورغبتها في الإبقاء على الاتفاق وعدم تجميده أو إفشاله برغم أن إيران سعت لاختبار الجانب الأوروبي مرات عدة طوال السنوات الماضية.
وبموجب الاتفاق مع القوى الكبرى، وافقت إيران على فرض قيود على برنامجها النووي، مقابل رفع العقوبات الدولية، والرسالة أن كلا الجانبين ما زال في دائرة التشكك، وعدم وجود أي مؤشرات تتوافق، وإن كانا في مرحلة الانتقال من الأقوال للأفعال وتنفيذ ما يمكن البدء به فعلياً.
على مسار آخر - وفي إطار لعبة الشد والجذب - انتهت مهلة حددها قانون أقره البرلمان الإيراني، مطلع ديسمبر الماضي، يلزم الحكومة باتخاذ خطوات إضافية من انتهاك الاتفاق، وذلك في محاولة للضغط على إدارة جو بايدن لرفع العقوبات المفروضة. وقبل انتهاء المهلة رسمياً، باشرت المنظمة الذرية الإيرانية، تنفيذ القانون، برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20%، وأنتجت معدن اليورانيوم، الوارد استخدامه في صنع الأسلحة النووية، وزادت من أجهزة الطرد المركزي في منشأة نطنز، إذ تسعى إيران لتعليق البروتوكول الإضافي الملحق بـمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وإلغاء السماح بدخول أي موقع يُعد مهماً لجمع المعلومات إذا أخطرت الوكالة إيران بالأمر قبل وقت قصير.
تماشياً مع هذه التطورات سيكون على أوروبا الانتقال من دور تفاعلي والعمل مع إيران في اتجاهين؛ الولايات المتحدة وإيران معا، والقضية ليست فقط إجراء مزيد من الاتصالات على خطوة البدء، بل العمل على إيجاد الأرضية المهمة التي يبدأ بها الطرفان في هذا التوقيت، في ظل مراهنات حقيقية على عدم تقديم تنازلات من الجانب الإيراني، خاصة أن الداخل الإيراني يموج بحالة من الاستنفار المتعلق بإدارة الحملات الانتخابية المقبلة، ووجود نوع من المزايدات التي تعلن عن نفسها وتتطلب التعامل معها بجدية، فعلى سبيل المثال، اختبر الجانب الإيراني جيداً خروجه التدريجي الحذر من بعض نقاط الاتفاق النووي والوصول بمعدلات التخصيب إلى 20% مع التأكيد على عدم مخالفته، وهو ما يعني أن هناك تمسكاً بالبقاء في الاتفاق والالتزام المحسوب بكل بنوده، رغم ما يتردد من أن إيران في طريقها للخروج الكامل من الاتفاق الراهن، كأسلوب ضغط على الجانب الأمريكي لرفع العقوبات، والانتقال لمرحلة من التفاوض.
والواقع يشير إلى أن أوروبا حائرة في التعامل مع الجانبين، وتريد دول الترويكا الانتقال إلى الهدف مباشرة وعدم الاستمرار في جدلية التفاوض وإملاء السياسات والشروط من كل جانب في اتجاه الآخر، خاصة مع إدراك أوروبا أن ترك إيران في الواجهة ومحاصرة خياراتها قد يدفعانها إلى مزيد من التشدد الحقيقي، خاصة أن فريق المفاوضين الأمريكيين يعرف إمكانيات وقدرات التفاوض في الجانب الإيراني جيداً، ويدركون أن فريق المفاوضين بارع في التعامل والوصول إلى هدفه، وهو ما قد يعوق بعض مسارات التحرك الأمريكي في التوصل لمرحلة حاسمة من بدء التفاوض.
والواقع أنه ليس لدى إيران حافز كبير يدفعها لتقديم تنازلات، في ظل احتمال تحقيق المحافظين مكاسب في انتخاباتها العامة، وتعني المعارضة من جانب الأعضاء الجمهوريين وبعض الديمقراطيين في الكونجرس أنه ليس بوسع الرئيس بايدن أن يبدو مترددا في التعامل.
إن الإشكالية الحقيقية في أن الدور الأوروبي لا يريد الانتقال من الوسيط عن بعد إلى الوسيط الفاعل والمباشر والقوي، الذي يستطيع أن يحصل على مساحة حركة حقيقية في التفاوض، وليس فقط المشاركة على الهامش، فالجانب الأوروبي له تصوراته الحقيقية المهمة في العمل، ولديه خبرات عريقة في التعامل مع الجانب الإيراني، وهو ما يتيح له مساحات من الانتقال والتفاعل الجاذب والمباشر، وهو ما يدركه الجانبان الأمريكي والإيراني، ومع ذلك لا يسعيان إلى ترك الترويكا لفرض الخيار بين الجانبين في ظل قناعات بأن إيران ستماطل في تنفيذ أي تفاهمات حقيقية بين الجانبين الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية، خاصة مع استمرار حالة الاستجداء المطروحة من الجانب الأمريكي، والتي عبر عنها وزير الخارجية أنتوني بلينكن بقوله إنه إذا عادت إيران إلى الالتزام بالاتفاق، فسوف تسعى الولايات المتحدة إلى التوصل إلى اتفاق أطول أمداً وأكثر قوة لمعالجة ما وصفه بالقضايا المحفوفة بالمشكلات المعقدة، كما قامت إدارة الرئيس بايدن بتخفيف القيود المفروضة على تنقلات الدبلوماسيين الإيرانيين لدى الأمم المتحدة، وبذلك ستعود إيران إلى وضع سابق فُرض أيضاً على كوبا وكوريا الشمالية، ويسمح لدبلوماسييها بالتنقل بحرية في نيويورك.
وقد رحبت الأطراف الأوروبية في الاتفاق بخطوة إدارة الرئيس بايدن للعودة للدبلوماسية مع إيران، وإحياء حوارها الواثق العميق مع الولايات المتحدة، وحثت هذه الأطراف إيران على عدم مواصلة التهديدات بوقف عمليات التفتيش النووية المفاجئة، والمخاطرة بتقويض الجهود الدبلوماسية، كما طرح الاتحاد الأوروبي فكرة عقد اجتماع بين إيران والدول الست الكبرى التي أبرمت الاتفاق النووي، وباعتبار ذلك مجرد دعوة لعقد اجتماع ومحادثات دبلوماسية.
وقد دخل مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي على خط التواصل مع دول الاتحاد الأوروبي، واقترح التوصل إلى حل مؤقت مع إيران بشأن أنشطة التفتيش، مع مناقشة الوكالة الأنشطة الضرورية للتحقق والمراقبة لما يصل إلى 3 أشهر. ومن المفترض أن تصدر الطاقة الدولية تقريراً شاملاً عن تطورات الملف الإيراني، بما فيه العثور على آثار اليورانيوم في موقعين محددين، وبالتالي سوف يتعين على الجانبين الأمريكي والإيراني، الاتفاق على عقد اجتماع بينهما. وسيتم أول اختبار للجهد المتجدد لتحقيق التوافق، إذ تؤكد إيران أنها سوف تمنع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالقيام بأي عمليات تفتيش مفاجئة، وذلك من خلال وقف العمل وفقاً لما يسمى البروتوكول الإضافي ابتداءً من 23 فبراير الجاري، وفي المقابل ستستمر الإدارة الأمريكية في موقفها لحين اتضاح ما تفضي إليه المراوغات الإيرانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة