لم تتنصل أوروبا يوماً من دورها ومسؤولياتها كوسيط سلام في قضية فلسطين، ولم تتخلّ عن قيمها الإنسانية التاريخية حول العدالة وحقوق الشعوب في التحرر والاستقلال واحترام القوانين وسيادتها في هذا المضمار.
فأوروبا دفعت مئات الآلاف من أرواح أبنائها على مدار قرون من الصراعات على مذبح مقاومة الاستبداد والظلم والطغيان.
حتى الأمس غير البعيد، كان قادة الغرب منتمين إلى قيم حضارتهم المعهودة تجاه الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة، علما أنهم لم يترددوا في دعمهم وتضامنهم مع إسرائيل في أي تفصيل يخص أمنها وسياساتها، حتى حين تحشرهم سلوكيات قادة تل أبيب في زوايا حرجة أو حادة، فإنهم ينادون الأطراف جميعها بضرورة التحلي بالحكمة وضبط النفس.
في المشهد الفلسطيني الماثل في غزة، وأمام غزارة دم الأبرياء المراق بآلة الحرب الإسرائيلية؛ بدا موقف الطبقة السياسية الأوروبية منقلبا على ذاته إلى حد كبير، فالبصر والبصيرة كلاهما كانا على مدار عقود الصراع صنوين متلازمين في قراءات الساسة الأوروبيين الاستراتيجية ومقارباتهم لاستقرار المنطقة والعالم عندما يهتز أمن الشرق الأوسط لسبب أو لآخر، وكانوا ينطلقون من محفّزَيْن اثنين، أولهما: دواعي القرب الجغرافي وما يحمله من منعكسات مباشرة على بلدانهم ومجتمعاتهم، وثانيهما يأتي من مسؤوليتهم السياسية والأخلاقية ودورهم كقوة راسخة في ضبط التوازن الإقليمي والدولي، إضافة إلى قدرتهم على لعب أدوار حيوية، والتأثير المباشر أحيانا وغير المباشر أحايين أخرى، سواء في قرار الحرب أو في مسارات السلام، كونهم منحازين لقيمهم في العدالة والحقوق والقانون ليس إلا.
لا ينكر عاقل مدى أهمية الدور الأوروبي وثقله في موازين القوى بشأن القضية الفلسطينية ومستقبلها، وليس بمقدور أي طرف إلغاؤه من المعادلة الدولية بهذا الخصوص أو حتى تجاوزه، ولهذه الحقائق كلها يُفترض أن يتمسك الساسة الغربيون بمواقفهم المعتدلة حتى يبقوا مقبولين لدى أطراف الصراع كافة.
إن التهافت الغربي غير المسبوق تجاه إسرائيل، في ظل المحنة المروعة للفلسطينيين من أهل غزة، يفسح المجال أمام قراءات متعددة لبواعثه ودوافعه، ولما قد يرتب على القضية الفلسطينية مستقبلا من تبعات بعد حرب غزة.
فالتبني الأمريكي المطلق للسردية الإسرائيلية منذ عقود، ولمواقف قادة تل أبيب وسياساتهم وخياراتهم في الحرب وفي السلام، لم يجبر الأوروبيين في كثير من المنعطفات على مجاراته بشكل تام، بل اتخذوا مواقفهم انطلاقا من استراتيجية منبثقة عن قيمهم في الحق والعدالة، مما جعلهم بمنزلة كفة التوازن في جميع المقاربات المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي عموما، وبالصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل خاص، وبالتالي فإن هذه الجولة من الصراع تتطلب مواقف أوروبية أكثر انسجاما مع قيمهم أولا، ومع قوانين العدالة الدولية التي يمثلونها ثانيا.
سجل الرئيس الأمريكي جو بايدن، بحضوره الداعم إلى جانب رئيس الوزراء نتنياهو أسبقية مثيرة، ليتبعه وزيرا خارجيته ودفاعه بكل حمولات الدبلوماسية والعتاد الحربي وما تنطوي عليها من رسائل، وهذا ليس مفاجئا لا من حيث الشكل ولا المضمون، بل يمكن القول إنه ترجمة لالتزام قادة الولايات المتحدة الأمريكية ونخبها السياسية تاريخيا من ديمقراطيين وجمهوريين، وتعهداتهم بضمان أمن إسرائيل وتفوقها، ما يعني انسجاما مع قيمهم المنحازة لإسرائيل.
ولا تغيب الغايات أيضا إذا ما نظرنا إلى الانقسام الداخلي الأمريكي، وملامح المناخ المتعلق بالانتخابات الرئاسية بعد عام تقريبا، ونزعة الديمقراطيين للاستثمار السياسي والانتخابي في هذا الدعم، في حين أثارت مواقف بعض القادة الأوروبيين علامات استفهام حول حقيقة «الوسطية» التي تحلت بها القارة على مدار عقود من الصراع.
نعم.. خيارات الدول تعكس استقلاليتها ومصالحها، لكن ينبغي ألا تكون على حساب طرف لصالح آخر، وألا تصب تلك الخيارات في ترجيح كفة أحد ضد آخر خشية حدوث خلل في التوازنات، والأهم ألا تكون تلك الخيارات أو بعضها مجافية أو مناقضة للمبادئ والقيم الإنسانية التي تدعيها.
الاكتفاء بالمطالبة للالتزام بقواعد الحرب وقوانينها لن تنقذ طفلا فلسطينيا بريئا ولا شيخا ولا امرأة. ليس مطلوبا حشد جيوش أوروبا إلى جانب الفلسطينيين، لكن من الضرورة أن يستعيد الساسة الغربيون وعيهم بمسؤولياتهم، وأن يتخلصوا من وطأة عواطفهم خلال هذه الجولة الاستثنائية من الصراع، وأن يضعوا المكاسب الآنية جانبا، حتى يحافظوا على دورهم وتأثيرهم في قضية ستبقى معيارا لأمن وسلام العالم برمته.
معطيات حرب غزة تشير من حيث المبدأ إلى تحولات قادمة لا بد أن تُحدثَها، وقد تكون بأبعاد استراتيجية تتعدى نتائج الميدان، وربما تتجاوزها إلى دوائر أوسع في عموم المنطقة، حيث دائرة النار تتوسع على حساب واحات الاستقرار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة