خلال آخر خطاب عن حال الاتحاد الأوروبي، وكان ذلك عام 2018، وصف رئيس المفوضية الأوروبية السابق، جون كلود يونكر، المشهد بأنه "قومية أوروبية غير صحية".
وأضاف: "حب الوطن فضيلة، لكن النزعة القومية الخارجة عن السيطرة مليئة بالسم والخداع".
هل بلغت أوروبا بالفعل حالة من فِقدان المناعة ضد جراثيم العنصرية؟
هذا ما أشار إليه كذلك البابا فرنسيس، في طريق عودته من "نور سلطان"، عاصمة كازاخستان، بعد مشاركته في قمة حوار أتباع الأديان، إذ اعتبر أن الغرب بات يعاني من "مسحاء الشعبوية"، وما أدراك ما الشعبوية؟!، كل رؤية تتمركز حول ذاتها، وتسعى في طريق إقصاء الآخر واستبعاده.
وقت ظهور هذه الكلمات للنور، ستكون الانتخابات الإيطالية على موعد خلال ساعات مع حالة غير مسبوقة من تفوق واضح لليمين، الذي تقوده السياسية الإيطالية، جيورجيا ميلوني، رأس حزب "إخوة إيطاليا"، وهو الحزب السياسي الأبرز على الساحة الإيطالية، والوحيد الذي قدّر له الاستمرار منذ حقبة الفاشية في النصف الأول من القرن العشرين.
في عام 1996 أكدت "ميلوني" أن "موسوليني كان سياسيا جيدا، بل الأفضل خلال الخمسين سنة المنصرمة"، وقبل انطلاق السباق الانتخابي أشارت استطلاعات الرأي إلى تفوق الأحزاب اليمينية بـ46% من الأصوات، ورجحت أن يكون حزب "أخوة إيطاليا" هو الفائز الأكبر.
لسنا في حاجة إلى إيضاح أفكار "ميلوني"، تلك التي تعادي الهجرة، وتُناصب المهاجرين العداء، مع ما يدور حول تلك الأفكار من أحادية الرؤية وضيق التوجه.
الملاحظة المخيفة في حالة إيطاليا هي أن حزب "أخوة إيطاليا" هذا لم يحصل عام 2018 إلا على 4% فقط من الأصوات، ما يستدعي تساؤلا عميقا: ما الذي جرى وتغير خلال أربعة أعوام حتى يصعد بسرعة الصاروخ على هذا النحو؟
ومن مصادفات القدر المؤلمة ما جرى في انتخابات دولة اسكندنافية، كانت النظرة السائدة لها، وربما لا تزال، أنها جنة حقوق الإنسان في العالم، ونقصد بها السويد.
في استوكهولم، حصل التكتل المحافظ المؤلَّف من أربعة أحزاب من اليمين المتطرف، بقيادة "أولف كريسترسون"، رئيس حزب المحافظين، على 176 مقعدًا، وفي مقدمة الأحزاب الفائزة ضمن هذا الائتلاف يأتي حزب "ديمقراطيو السويد"، المُعادي للهجرة، بزعامة جيمي أكيسون، والذي بات الحزب الثاني في البلاد، والتنظيم الأول في كتلة اليمين، مع حصوله على 20.5% من الأصوات.
وكما الحال مع الصعود الرهيب لحزب "أخوة إيطاليا"، يدهش المراقبون الأوروبيون من تحرك حزب "ديمقراطيو السويد"، من حزب "منبوذ" قبل بضع سنوات، إلى ثاني أكبر حزب في السويد.
وبالعودة بضعة أشهر إلى الوراء، وتحديدًا إلى إبريل/نيسان الماضي، يرصد المرء عبر الانتخابات الرئاسية الفرنسية تطورًا يدعو للقلق في بلاد التنوير، حيث الركائز الرئيسة تقوم على العدالة والإخاء والمساواة، فرغم فوز الرئيس إيمانويل ماكرون بنسبة 58.54% من الأصوات، فإن زعيمة تيار اليمين الفرنسي، المتمثل في التجمع الوطني الفرنسي، ماريان لوبان، أحرزت نتيجة غير مسبوقة لتيار "الأصوليات الفرنسية"، إن جاز التعبير، وقد بلغ نحو 41.5%.
هل كانت ألمانيا لتتخلّف من قبل عن هذه الموجة الشعبوية المثيرة للقلق، لا بالنسبة لأوروبا فقط، بل لعموم الحياة السياسية في حوض المتوسط؟
بالقطع لا، فقد ارتفعت شعبية حزب "البديل من أجل ألمانيا"، فيما الحديث عن ألمانيا بنوع خاص يحتاج إلى عودة، سيما أن هناك توقعات مخيفة من حركات عصيان وتمرد، قد تشهدها ألمانيا في قادم الأيام القريبة، جراء الاضطرابات الاقتصادية التي تعيشها البلاد، والتي يجيد اليمين الألماني العزف السيئ عليها، بهدف تحقيق أكبر مكاسب ممكنة.
وبالانتقال إلى المجر، تُقابلنا رؤية ذات ملامح ومعالم عنصرية بامتياز، فقد رفع رئيس وزراء البلاد، فيكتور أوربان، شعار "لا لخلط الأعراق"، ويقصد به أنه يمكن الاختلاط مع الأوروبيين، لكن لا لفكرة الأعراق المختلفة، وليس سرا أنه من بين أكثر الرافضين لقبول المهاجرين، سيما من الشرق الأوسط والعالم العربي.
"أوربان"، المنتمي إلى حزب "فيديس" اليميني الشعوبي، يدخل قضية الهجرة في دروب ومسارات، تكاد تقترب من أطروحة صراع الحضارات عند هنتنجتون، بل ربما تقفز عليها، إلى دائرة الثقافات الدينية، والتي يعتبرها التزاما سياسيا يتوجب الدفاع عنه.
ماذا يحدث لأوروبا التي أنارت للعالم في قرون النهضة، وبخاصة القرنين السابع عشر والثامن عشر؟
تقتضي الموضوعية والموثوقية الإقرار أول الأمر بحق كل دولة في الحفاظ على أمنها وصون سلامها الاجتماعي، وكذلك على المهاجرين واللاجئين احترام ثوابت تلك الدول، وآداب شعوبها، والعمل على الاندماج الإيجابي والخلاق في صفوفها، ومن غير محاصصات.
لكن القول بأن المهاجرين هم سبب تلك القومية المتشددة أمر غير سديد، فهناك أخطاء تتراكم في الرحم الأوروبي، لا سيما خلال العقدين الفائتين، من عوامل اقتصادية، وطروحات فكرية شِقاقية عنصرية، وصحوة لتيارات فاشية ونازية، هذه جميعها أذكت نيران التطرف.
أما هجوم روسيا على أوكرانيا، فقد أعاد فتح جرح الشعور القومي، ووضع الكل أمام خِيار التمتْرس وبقوة خلف فكرة الدولة الوطنية.
أوروبا في حاجة إلى حبوب حضارة التنوير من جديد، لمواجهة مخاطر نقص مناعة الاعتدال في الحال والاستقبال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة